إلى عمال الثغور بالتحوط والأهبة. ولبث النورمانيون في مياه أشبونة ثلاثة عشر يوماً التحموا خلالها مع المسلمين في عدة وقائع، ثم ساروا بأسطولهم جنوباً إلى قادس، ثم شذونة، ثم اخترقوا النهر الكبير (الوادي الكبير) حتى إشبيلية.
وكان ظهور هذه السفن الغازية، وأولئك الغزاة الشقر في قلب الأندلس، مفاجأة مروعة، ولم يكن للأندلس يومئذ أسطول قوي تدفع به شر الغزوات البحرية، ولم تتخذ في الثغور لردها أهبات خاصة. ونزل النورمانيون في ظاهر إشبيلية في أوائل المحرم سنة ٢٣٠هـ (سبتمبر سنة ٨٤٣ م)(١) وكانت يومئذ دون أسوار تحميها من العدوان المفاجىء، وكانت مفاجأة مروعة لأهلها، الذين لم يتخذوا أية أهبة خاصة للدفاع عن أنفسهم، وعبثاً حاول المسلمون رد الغزاة. واقتحم النورمانيون إشبيلية وأمعنوا في أهلها سفكاً ونهباً وسبياً، وعاثوا فيها مدى سبعة أيام أشنع عيث، تم غادروها وعسكروا في ظاهرها، في قرية طلياطة الواقعة غربي إشبيلية. وفي تلك الأثناء بعث الأمير عبد الرحمن قوات من الخيل على عجل لإنجاد إشبيلية بقيادة عبد الله بن كليب ومحمد بن رستم، وجعل على قوات قرطبة حاجبه عيسى بن شهيد، وهرع المسلمون من كل صوب للجهاد ورد الغزاة.
وقاد القوات المتحدة نصر الخصي، وتلقى النورمانيون المدد في سفن جديدة قدمت إليهم، ونشبت بين الفريقين في البداية بضع معارك محلية، تفوق فيها الغزاة. وفي الخامس والعشرين من صفر سنة ٢٣٠هـ، نشبت بينهما معركة حاسمة تجاه قرية طلياطة، وكان على رأس قوات المسلمين محمد بن رستم، فهزم النورمانيون بعد قتال عنيف، وقتل منهم نحو ألف وأسر نيف وأربعمائة، وأحرق من سفنهم ثلاثون، وكان قائدهم بين القتلى، وارتد النورمانيون إلى سفنهم، وتحصنوا بها، وقتل المسلمون أسراهم أمام أعينهم، وصلبوا على جذوع النخل، ثم أقلعت سفن الغزاة مرتدة إلى الجنوب، والمسلمون من ورائهم يطاردونهم، ويفتدون أسرى المسلمين منهم بمختلف السلع، وانتقم النورمانيون لأنفسهم أثناء ارتدادهم بالإغارة على لبلة وباجة، ثم انتهوا ثانية إلى ثغر أشبونة حيث غادروا مياه الأندلس مع باقي سفنهم، بعد أن لبثوا بضعة أسابيع يبثون فيها الرعب والروع.
(١) يضع ماريانا غزوة النورمانيين الأولى لإشبيلية في سنة ٨٤٧ م (راجع تاريخه العام - الترجمة الفرنسية - ج ٢ ص ٨٤).