للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقضى ابن الخطيب فى منفاه زهاء ثلاثة أعوام، واستقر فى فاس معززاً مكرماً، ولكن السلطان عبد العزيز ما لبث أن توفى، وساءت الأمور فى عهد ولده الطفل الملك السعيد، ووقع انقلاب انتهى بجلوس السلطان أحمد بن أبى سالم على العرش، وهو صديق الغنى بالله وحليفه. وكان بلاط غرناطة وخصوم ابن الخطيب فى الأندلس يجدّون فى ملاحقته ومطاردته، فسعوا عندئذ لدى بلاط فاس فى القبض عليه واتهامه بالزندقة، وكلل مسعاهم آخر الأمر بالنجاح، واعتقل ابن الخطيب وأفتى بعض الفقهاء المتعصبين بوجوب قتله تنفيذاً لحكم الدين، ودس عليه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد، فقتلوه فى سجنه، وذلك فى أوائل سنة ٧٧٦ هـ (أواخر ١٣٧٤ م). وهكذا ذهب الكاتب والشاعر الكبير ضحية الغدر السياسى والتعصب الشائن (١).

وكان ابن الخطيب سياسياً بعيد النظر، وكان يرى فى حوادث الأندلس شبح المستقبل الرهيب واضحاً، ويستشف بنافذ بصيرته ما وراء الحجب، من نهاية محتومة لهذا الوطن الذى مزقته الأهواء وأضنته الفتنة، وكان يرى هذا المصير المحزن قبل وقوعه بأكثر من قرن، ويهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر أن يبادروا إلى غوثه ونصرته، وله فى ذلك رسائل ونداءات عديدة مؤثرة تفيض قوة وبلاغة، فى الحث على اليقظة، والذود عن الدين والوطن، والنذير بما يهددهم ويهدد دينهم ووطنهم، من خطر المحو والفناء، إذا تقاعسوا أو تخاذلوا وافترقت كلمتهم (٢).

وأبلغ من ذلك كله فى الدلالة على شعور ابن الخطيب بخطر الفناء الذى ينتظر الأندلس، ما وجهه فى وصيته إلى أولاده من النصح، بعدم الإسراف فى اقتناء العقارات بالأندلس إذ يقول لهم: "ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذى لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع فى العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعياً لنفسه أن يتغلب العدو على بلده فى الافتضاح والافتقار، ومعوقا عن الانتقال


(١) تناولنا هذه الحوادث بالتفصيل عند كلامنا عن حياة ابن الخطيب فى الكتاب الرابع. وراجع ابن خلدون ج ٧ ص ٣٤٠ و ٣٤١. هذا وقد دوّن ابن الخطيب ما شهده فى منفاه فى المغرب لأول مرة من الحوادث فى كتاب سماه " نفاضة الجراب فى علالة الإغتراب". ومنه نسخة مخطوطة فى مكتبة الإسكوريال تحفظ برقم ١٧٥٥ الغزيرى.
(٢) نقل إلينا المقرى فى نفح الطيب وأزهار الرياض كثيراً من هذه الرسائل. وراجع الإحاطة ج ٢ ص ٣١ - ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>