للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصاً على أوطانهم ومصالحهم أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيراً منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم، جازوا البحر إلى المغرب، وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقى، حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضم بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس. وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التى أوذيت الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجنى ذنباً أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغى أو مهادنته، تلقى استنكاراً عاماً. ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكى قشتالة فى طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجنى، وأدرك وربما لأول مرة، فداحة الخطأ الذى ارتكبه فى محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بنى وطنه ودينه؛ ولما أصر فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم (١)، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يعد له القول والفصل فى هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطى يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويصمم على المقاومة والدفاع (٢).

هكذا كان جواب أبى عبد الله لملكى قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف بعزم شعبه، من الاستكانة والمهادنة إلى التحدى والمقاومة. وهنا يبدو لنا أبو عبد الله شخصية أخرى تنزع عنها صفات الخور والاستسلام والخضوع الذى يدنو إلى الخيانة، لتتشح بثوب من العزة والكرامة، والحمية الدينية والوطنية. أجل دوّت غرناطة بصيحة الحرب والجهاد، وخرجت سريات من الجند المسلمين، لتعيث فى الأراضى النصرانية القريبة. وفى ربيع سنة ١٤٩٠ م (٨٩٥ هـ) خرج ملك قشتالة فى قواته وهو يضطرم سخطاً، وزحف على بسائط غرناطة فعاث فيها، وانتسف الزروع واستاق الماشية، وخرب الضياع والقرى، ووصل فى عيثه وتخريبه حتى أسوار الحاضرة ذاتها، وبرز المسلمون لقتاله وعلى رأسهم أميرهم أبو عبد الله، ووقعت بين الفريقين فى ظاهر غرناطة، عدة ملاحم دموية ارتحل النصارى على أثرها، ولم يستطيعوا الدنو من المدينة (رجب ٨٩٥ هـ - يوليه ١٤٩٠ م).


(١) أخبار العصر ص ٣٤؛ ونفح الطيب ج ٢ ص ٦١٤.
(٢) Prescott: ibid ; p. ٢٩٠

<<  <  ج: ص:  >  >>