للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فماذا كان جواب أبى عبد الله؟ لقد كان فى سابق مواقفه، وممالأته لملك قشتالة، ومحالفته إياه ودخوله فى طاعته، وما يدين له به من تغلبه على عمه ومنافسه الزغل، وجلوسه على العرش، ما يحمل الملكين الكاثوليكيين، على توقع استسلامه وخضوعه. ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان. ولدينا وثيقة توضح لنا موقف أبى عبد الله فى هذه المناسبة، هى عبارة عن خطاب صادر منه إلى الملكين الكاثوليكيين، يشير فيه إلى قدوم "القائد غنضال والقائد مرتين" بكتبهما إليه، وأنه يرسل إليهما خديمه، القائد أبا القاسم المليح، ليحدثهما فى هذا الموضوع.

وبالرغم من اللهجة المهذبة، المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة، التى اختتمت بها الرسالة، فقد كان جواب أبى عبد الله للملكين الكاثوليكيين، رفضا لما طلباه. وتاريخ هذه الرسالة هو ٢٩ صفر سنة ٨٩٥ هـ (٢٢ يناير سنة ١٤٩٠) (١). والظاهر أن رسول أبى عبد الله لم ينجح فى مهمته، وعاد إلى مليكه يخبره بإصرار الملكين الكاثوليكيين على طلبهما. وهنا تقول الرواية القشتالية، إن أبا عبد الله اشتدت دهشته، لإصرار الملكين الكاثوليكيين، واعتزم أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. وعلى ذلك فقد أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كُماشه، ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى، يدعى ابراهيم القيسى، إلى الملكين الكاثوليكيين فى إشبيلية، لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين. وعلى ذلك فقد استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى (٢).

وهنا نقف قليلا لنتأمل هذا الموقف الجديد، من جانب أبى عبد الله. أجل كانت الخطوب والمحن التى جازتها الأندلس فى هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبى عبد الله رجلا آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوى، ولكنه فقد فى الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه فى الدفاع والمقاومة؛ وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة، وعين لها حكام من النصارى، وتدجن من بقى من أهلها أو غدوا مدجَّنين Mudéjares يدينون بطاعة ملك النصارى.


(١) نشرت هذه الرسالة ضمن المجموعة التى نشرها الأستاذ جسبار ريميرو فى كتابه السالف الذكر.
(٢) راجع رواية Hernando de Baeza المنشورة فى أخبار العصر (ص ٩٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>