للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن غرناطة لم تكن مع ذلك غنما سهلا، فقد كانت منيعة بموقعها وظروفها، تحميها من الشرق آكام جبل شُلير (سيرّا نفادا) الشامخة، وتحميها من الجنوب أعنى من الجانب المواجه للمعسكر النصرانى، أسوار وأبراج فى منتهى الكثافة والمناعة. وكانت غرناطة تموج يومئذ بالوافدين إليها من مختلف القواعد الإسلامية الذاهبة، وتضم بين أسوارها من السكان أكثر من أربعمائة ألف نفس، ومع أن هذا العدد الضخم من الأنفس كان عبئاً ثقيلا على مواردها المحدودة، فقد كان من بينهم على الأقل زهاء عشرين ألفاً من الصفوة المختارة من الفروسة الأندلسية، التى ألفت ملاذها الأخير فى العاصمة المحصورة. ومن جهة أخرى فقد كانت الحاضرة الإسلامية منذ بعيد تلمح شبح الخطر الداهم يتربص بها دائماً، وكانت تعيش فى أهبة دائمة لمواجهته، وتجمع ما استطاعت من الأقوات والمؤن. فلما دهمها الحصار كانت على أهبة تامة لدفاع طويل الأمد.

كانت غرناطة تستشعر قدرها المحتوم، ولكنها لم ترد أن تستسلم إلى هذا القدر القاهر، قبل أن تستنفد فى اجتنابه كل وسيلة بشرية، ومن ثم كان دفاعها من أمجد ما عُرف فى تاريخ المدن المحصورة والقواعد الذاهبة، ولم يكن هذا الدفاع قاصراً على تحمل ويلات الحصار مدى أشهر، بل كان يتعداه إلى ضروب رائعة من الإقدام والبسالة، فقد خرج المسلمون خلال الحصار، لقتال العدو المحاصر مراراً عديدة، يهاجمونه ويثخنون فى محلاته، ويفسدون عليه خططه وتدابيره. وتشير الرواية الإسلامية كما تشير الرواية النصرانية إلى هذه المعارك الأخيرة التى وقعت فى بسائط غرناطة بين المسلمين والنصارى (١). وتنوه الرواية النصرانية بما كان يبديه الفرسان المسلمون من الشجاعة والإقدام والبراعة، أولئك الأنجاد البواسل هم البقية الباقية من الفروسة الأندلسية، التى لبثت قروناً زهرة الفروسية فى العصور الوسطى.

وكان روح الفروسة المسلمة فى تلك الآونة العصيبة فارس رفيع المنبت والخلال، وافر العزم والبراعة، هو موسى بن أبى الغسان (٢) وهو سليل إحدى


(١) أخبار العصر ص ٤٥؛ وكذلك: Irving: ibid ; p. ٢٩٣ & foll
(٢) لم نعثر فى المصادر العربية التى بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا فى ذلك هو المؤرخ الإسبانى كوندى ( Condé: ibid ; V. III. p. ٢٥٤) ، ويقول كوندى إنه نقل روايته عن مصادر عربية؛ ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر. وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى فى رحلته إلى من يدعى " موسى أخى السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة" (رحلة الوزير =

<<  <  ج: ص:  >  >>