يتجولون فى مختلف الأنحاء، لتقصى أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هى النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يوجد الكفرة والملاحدة، ثم تحل متى تمت مهمة مطاردتهم والقضاء عليهم.
ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها فى أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة فى هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أى مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رياسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجرى بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن. وكان يسمح للنساء والصبية والعبيد بالشهادة ضد المتهم وليس له، ويؤخذ الإعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التى يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة. وكانت العقوبات الرئيسية هى السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لنشاطه فى مطاردة الألبيين (١) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا منذ أوائل القرن الثالث عشر فى جنوب فرنسا. وفى عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق فى تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة فى العهد القديم.
ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضى الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر، والزيغ فى العقيدة، بل تعدته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرافة والعرافين، وشبه هؤلاء بالكفرة. وجاء بعد ذلك دور اليهود، فاتهموا بسب النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا، وتتبعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب. على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر فى مطاردة الكفر والزيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها.
(١) نسبة إلى "ألبى" وهى مدينة بجنوبى فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة