للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ٢ -

تلك هى الظروف التى قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، فى مختلف أنحاء أوربا، فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسبانى إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة.

وقد أنشئت محاكم التحقيق فى مملكة أراجون منذ أوائل القرن الثالث عشر، ووضعت لها فى سنة ١٢٤٢ م إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر فى صوغ نظم ديوان التحقيق الإسبانى. وعرف هذا الديوان الأرجونى بالديوان القديم وعكف حيناً على مطاردة طوائف الألبيين، وإخماد دعوتهم فى أراجون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والروع.

على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة المدى لنشاط ديوان التحقيق الإسبانى. ذلك أن ظروف اسبانيا النصرانية فى ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين اسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها فى ميدان الحرب والسياسة، كانت كلها تذكى النزعة الصليبية، التى كانت تجيش بها اسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر، إلى طوائف كبيرة من المدجنين فى مهاد عزها القديم، فى قشتالة وأراجون، ولم تبق منها سوى بقية أخيرة تحتشد فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً فى الأفق. وكان تفوّق اسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكى عوامل التعصب الدينى الذى تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه اسبانيا الظافرة يومئذ شعارها المفضل فى ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم فى هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من اليهود ( Conversos) ؛ وكان أولئك المحدثون فى النصرانية، قد سما شأنهم ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية فى الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الريب، ويعتبرونهم شراً من اليهود الخلص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً. ولما تفاقم الإتهام من حولهم صدر فى سنة ١٤٦٥ م فى عهد الملك هنرى الرابع ملك قشتالة، أمر ملكى إلى الأساقفة، بالاستقصاء والبحث فى دوائرهم، وتتبع هذا اللون من المروق والزيغ ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد اتخذت صورة المحاكمات الدينية،

<<  <  ج: ص:  >  >>