للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق تنحنى أمامه أية سلطة، وتحمى أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جراء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع فى هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامى، لا يتورعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة فى السجن جوعاً (١).

وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً أن يبسط حكم الإرهاب فى بعض المناطق، وهذا ما حدث فى قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو، الذى يعتبر من أشد المحققين قسوة وإجراماً. ففى عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع، الذى يجرى باسم الديوان المقدس، وفى ظله، والذى يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت فى الموضوع تحقيقات طويلة انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (٢).

وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة، التى تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذى لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه فى الوقت نفسه، أصلح أداة لتنفيذ سياسته فى إبادة الموريسكيين. وفى الوصية التى تركها فرناندو الكاثوليكى عند وفاته فى يناير سنة ١٥١٦، لحفيده شارل الخامس (كارلوس كنتو أو شرلكان)، ما يلقى ضياء على هذه الحقائق، ففيها يحث على حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوى الضمائر الذين يخشون الله، لكى يعملوا فى عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكى، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (٣).

ولما توفى فرناندو، كان المحقق العام هو الكردينال خمنيس مطران طليطلة، الذى أبدى من الحماسة فى مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه، وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين


(١) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. ١٩٠-١٩٢
(٢) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. ٢١٠
(٣) Dr. Lea: ibid ; cit. Mariana ; V. I. p. ٢١٥

<<  <  ج: ص:  >  >>