سنة ١٤٨٠، قبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى فى إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية فى الأندلس، ووقع ملايين المسلمين فى قبضة اسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق فى هذا المجتمع النصرانى المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية فى تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائى بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هى القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها فى المجتمع النصرانى. ولم تشأ السياسة الإسبانية، أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخى، بل رأت نزولا على وحى الكنيسة وتوجيهها المباشر، أن تعجل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب فى ذلك إلى حدود من الإسراف والغلو، هى التى أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كر الأجيال والعصور.
وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسبانى بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية التى أريد بها تنفيذ حكم الإعدام فى أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لقضاء ديوان التحقيق منذ سنة ١٤٩٩، أعنى مذ أكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق فى قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله فى غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء فى الوطن القديم، وأكرهوا على التنصير واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الإضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت اسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهرى، وإنما كانت