النصارى، وتغادرها حاملة أموالها وفنونها وصنائعها، تاركة وراءها الخراب والفقر والضيق الاقتصادى. واستمر سيل لهذه الهجرة المخربة زهاء قرنين، حتى سقطت غرناطة، واحتشدت البقية الباقية من الأمة الأندلسية فى المنطقة الجنوبية، فى بعض القواعد الأندلسية القديمة، مثل بلنسية ومرسية، وهاجرت قبل سقوط غرناطة وبعده، جموع غفيرة من المسلمين إلى إفريقية، واستحالت الأمة الأندلسية غير بعيد، إلى شعب مهيض ممزق هو شعب الموريسكيين أو العرب المتنصرين. ومع ذلك فقد لبثت هذه الأقلية الأندلسية المضطهدة، عاملا خطيراً فى اقتصاد اسبانيا القومى، وفى ازدهار زراعتها وتجارتها وفنونها وصناعاتها. وكان الموريسكيون يحملون الكثير من تراث الأمة المغلوبة، وإلى نشاطهم ودأبهم، يرجع ازدهار الضياع الكبيرة التى يملكها السادة الإقطاعيون. فلما اشتد بهم الإضطهاد والعسف، وأخذت يد الإبادة تعمل لتمزيق طوائفهم، وسحق نشاطهم وقتل مواهبهم، ولما اتخذت اسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء اسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعى الذى برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيدى الماهرة، وكسدت التجارة التى كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التى كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التى استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضى الزمن نتائجها المخربة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوى عمرانها، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلت جهود الإصلاح والتقدم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين، وفقدت معظم المدن الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة أربعة أخماس سكانها، وعم الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيم على اسبانيا كلها جو من الفاقة والركود والانحلال.
وإذا كان النقد الحديث، ينوه بخطورة السياسة التى اتبعتها اسبانيا، فى إبادة الأمة الأندلسية ونفى الموريسكيين، كعامل قوى الأثر فيما أصاب اسبانيا من أسباب الدمار والبؤس والانحطاط، التى لم تبرأ منها حتى عصرنا، فإنه يعتمد فى هذا الرأى على طائفة من النتائج المادية والأدبية، التى ترتبت على "النفى"، وحرمان اسبانيا من الثروات العقلية والفنية والصناعية، التى كانت تتمتع بها الأمة الأندلسية