وكان لدولتهم بالأخص صبغة علمية دينية، إذ كان مؤسسها المهدى ابن تومرت، من أئمة التفكير الدينى. وأبدى خلفاؤه عبد المؤمن وبنوه اهتماماً بالعلوم والفنون، وأطلقت حرية التفكير والبحث، وكانت قد صفدت فى عهد المرابطين، وأفرج عن كتب الغزالى وغيره من مفكرى المشرق، وكانت قد طوردت ومنعت فى أيامهم بالمغرب والأندلس. وفى تلك الفترة بالذات أعنى فى أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجرى، بلغ التفكير الأندلسى ذروة النضج، وتفجرت ينابيع النبوغ، وظهرت طائفة من أعظم أقطاب العلم والأدب. وكان فى طليعة أقطاب العلم فى هذا العصر، بنو زهر الإشبيليون، وعميدهم الوزير والطبيب الأشهر أبو العلاء زهر ابن عبد الملك بن زهر، ثم ولده أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة ٥٥٧ هـ (١١٦١ م)، وهو المعروف باللاتينية باسم Avenzoar. ويعتبر ابن زهر أعظم طبيب ومشخص فى العصور الوسطى بعد أبى بكر الرازى، ويعتبره ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس، ويعتبر كتابه "التيسير" من أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى، وكان لمؤلفاته التى ترجمت كغيرها إلى اللاتينية فى عصر مبكر، أثر عظيم فى سير البحوث الطبية فى أوربا، وخلفه فى مهنته ولده الطبيب الأشهر أبو بكر بن زهر، وحظى لدى حكومة الموحدين، وتوفى سنة ٥٩٥ هـ (١١٩٨ م). وظهر إلى جانب هؤلاء عدة من أقطاب الفلاسفة، مثل أبى بكر ابن طفيل الوادى آشى، المتوفى سنة ٥٨١ هـ (١١٨٥ م)، وهو صاحب رسالة حى بن يقظان الشهيرة، والإمام الفيلسوف أبى الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبى، المتوفى سنة ٥٩٤ هـ (١١٩٨ م). والرئيس موسى بن ميمون اليهودى القرطبى، المتوفى سنة ٦٠٢ هـ (١٢٠٥ م).
وفى حياة ابن ميمون وابن رشد بالأخص، ما يمثل لنا طرفاً من سياسة الموحدين تجاه التفكير، وترددها بين التسامح والإضطهاد. فقد كان ابن ميمون من أعظم الأطباء والفلاسفة فى عصره، ولكنه اضطهد ليهوديته خلال الإضطهاد العام، الذى لقيه اليهود فى ظل عبد المؤمن خليفة الموحدين، فغادر الأندلس إلى المشرق، ونزل بمصر وخدم بلاطها، وعين طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وندب للتدريس بالقاهرة. وقد كان ابن رشد بلا ريب أعظم فلاسفة الإسلام ومفكريه فى ذلك العصر، ولد بقرطبة سنة ٥٢٠ هـ (١١٢٦ م) واتصل منذ فتوته بأبى يوسف يعقوب ابن عبد المؤمن، المشرف على شئون الأندلس، وكان الأمير مثل أبيه يجمع حوله