للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بفترة من السلام والدعة. ولكن الخطر كان يجثم في ناحية أخرى. ذلك أن عوامل الانتقاض والثورة كانت تجتمع من جديد في شمال غربي الأندلس، في المناطق الجبلية التي ألفت الثورة واتخذتها شعاراً لها. ولم تكن حكومة قرطبة بغافلة عن هذه النذر. وكانت ماردة وبها عدد من زعماء المولدين المتمردين، في مقدمة القواعد التي يشك في ولائها وطاعتها. ففي سنة ٢٥٤ هـ (٨٦٨ م) خرج الأمير محمد على رأس جنده من قرطبة، متظاهراً بالسير إلى طليطلة، ولكنه عرج في منتصف الطريق فجأة على طريق ماردة، ودهمها قبل أن تستعد للقائه، فتحصن بها أهلها. ثم اقتحمها محمد، ووقع بين الفريقين قتال عنيف انتهى بسحق الثوار وإذعان المدينة، وطلب الزعماء الثائرون الأمان وفي مقدمتهم عبد الرحمن بن مروان الجليقي، وابن شاكر، ومكحول، وغيرهم، وهم من أكابر الفرسان والسادة، فنقلهم الأمير بأموالهم وأهلهم إلى قرطبة، وولى على ماردة سعيداً بن عباس القرشي، وهدم حصونها وأسوارها (١).

وكانت الحوادث تتطور في الثغر الأعلى في نفس الوقت تطوراً خطيراً. وكان الأمير محمد قد استطاع عقب وفاة موسى بن موسى أن يسترد سلطانه في تلك الأنحاء، وأن ينتزع القواعد الشمالية من أبنائه، ويعين لها حكاماً من قبله. وكان بنو موسى أو بنو قسي، نسبة إلى جدهم الأعلى الكونت قسي القوطي، يرجعون كما أسلفنا إلى أصل نصراني، وكانت هذه الأسرة المتمردة الشديدة المراس، كباقي الأسر القوية المولدة، تبغض حكومة قرطبة، وتميل إلى مناوأتها والتحالف ضدها مع النصارى، وكان بنو قسي أصهاراً لملك نافار النصراني، حيث كان غرسية زوجاً لابنة موسى المسماة " أوْرِية " Oria، فلما توفي موسى وانتزعت حكومة قرطبة قواعده من يد بنيه، لجأ هؤلاء حيناً إلى حماية ملك ليون، حتى تسنح لهم فرصة العمل ومعاودة الجهاد. على أن حكومة قرطبة لم تلق في حكامها الذين اختارتهم للقواعد الشمالية ما كانت تؤمل من ولاء وإخلاص. ففي سنة ٢٥٥ هـ (٨٦٩ م) ثار سليمان بن عبدوس في مدينة سُرية وهي من أعمال سرقسطة، فسار إليه الحكم بن الأمير محمد، وحاصر سرية وهدم أسوارها بالمجانيق، وأرغم الثائر على الخضوع والطاعة، وبعث به إلى قرطبة. وفي العام التالي (٢٥٦هـ)


(١) ابن الأثير ج ٧ ص ٦٢، والبيان المغرب ج ٢ ص ١٠٣، ومخطوط القرويين لوحة ٢٦٨ أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>