لم تدخر وسعاً في الرفق بهم ومعاملتهم دون تمييز أو إجحاف أو تحامل. وكان زعيم إشبيلية إبراهيم بن حجاج قد توفي، وخلفه في حكمها ولده عبد الرحمن، وخلفه في حكم قرمونة ولده محمد. ولما توفي عبد الرحمن في المحرم سنة ٣٠١ هـ، تطلع أخوه محمد إلى أن يحكم إشبيلية من بعده، ولكن أهل إشبيلية اجتمعوا حول زعيم قوى آخر هو أحمد بن مسلمة وهو أيضاً من بني حجاج وقدموه لحكمها، وسبق محمداً إلى الاستيلاء عليها. فسار محمد إلى قرطبة، وقدم طاعته إلى عبد الرحمن، فتقلبها وأوفد معه الجند بقيادة الحاجب بدر، فحاصر إشبيلية ثم استولى عليها في جمادى الأولى سنة ٣٠١ هـ وهدم أسوارها، وندب لها عبد الرحمن والياً من قبله، وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين في إشبيلية.
وفي شوال سنة ٣٠١ هـ (مايو سنة ٩١٤ م) خرج عبد الرحمن في غزوته الثانية، وقصد إلى كورة ريه والجزيرة. وكان ابن حفصون زعيم ثورة المولدين قد عاد فبسط حكمه على تلك الأنحاء، وعادت الثورة تضطرم فيها. وبدأ عبد الرحمن بحصار قلعة " طرُّش " في شرقي مالقة، ثم سار إلى حصون ريه ومعاقلها يفتتحها تباعاً؛ وهنا قدم ابن حفصون على رأس قواته والتقى بعبد الرحمن أمام قلعة طرُّش، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة قتل فيها كثير من جند ابن حفصون وحلفائه النصارى، وارتد الثائر بفلوله صوب الغرب، واستطاع أسطول عبد الرحمن أن يضبط عدة سفن محملة بالمؤن كانت قادمة من عدوة المغرب لإمداد ابن حفصون وأن يحرقها. وزحف عبد الرحمن على منطقة الجزيرة الخضراء، واقتحم حصن لورة الواقع بجوار الجزيرة، ثم دخل الجزيرة الخضراء في أوائل شهر ذي القعدة سنة ٣٠١ (يونيه ٩١٤ م). وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى شذونة ثم إلى قرمونة، وكان حاكمها حبيب بن سوادة قد ثار بها، فحاصرها حتى سلم الثائر واستأمن، فمنح الأمان، وانتقل بأهله إلى قرطبة. بيد أنه نكث بعهده فيما بعد. ودخلت في طاعته سائر المعاقل والحصون التي مر بها؛ ثم عاد إلى قرطبة في شهر ذي الحجة بعد أن أصاب جبهة الثورة في تلك المرة بضربة شديدة وإن لم تكن قاضية. ومع أن عبد الرحمن كان يتوق إلى سحق الثورة بكل الوسائل، فإنه لم يلجأ إلى قسوة لا مبرر لها، بل آثر منذ البداية أن يتبع سياسة الرفق والتسامح نحو الزعماء والثوار الذين قدموا خضوعهم