فبعث إليه الحاجب يلاطفه ويبذل الأمان له ولأصحابه، ويعده بكل ما يحب، ولكن الثائر رفض كل عرض، وأصر على العصيان، فطوق بدر المدينة، وبرز له كثير من أهل الطاعة فأمنهم، وأبقاهم لديه، وجد في مهاجمة عثمان وأصحابه إلى أن اقتحم عليه المدينة يوم ٢٠ رمضان سنة ٣٠٣ هـ (فبراير ٩١٦ م)، وقبض على عثمان وصحبه وأرسلهم في الأصفاد إلى قرطبة، وأمن أهل المدينة، ونظر في مصالحهم. وقد نظم ابن عبد ربه في فتح مدينة لبلة وفي مديح الناصر والحاجب بدر قصيدة يقول فيها:
خليفة الله وابن عم رسـ ... ـول الله والمصطفي على رسله
منتك نعمى نمت سوابغها ... كما استتم الهلال في كمله
وجه ربيع أتاك باكره ... يرفل في حليه وفي حلله
وأقبل العيد لاهياً جذلا ... يختال في لهوه وفي جذله
نصر من الله تضمنه ينهـ ... ـض في ريثه وفي عجله
يجري بشأو الأمام منصلتا ... يسبق حضر الجياد في مهله
قد وقف النكث والخلاف بها ... وقوف صب يبكي على طله (١)
وفي هذا العام، سنة ٣٠٣ هـ، وقع حادث داخلي هام، هو جنوح عمر بن حفصون، أكبر ثوار الأندلس إلى الصلح والطاعة، فبعث إلى الناصر يخطب وده، ويلتمس الصلح، مستشفعاً بما كان منه في إيواء الأمير محمد والد عبد الرحمن وحمايته، حينما فر من أبيه الأمير عبد الله. وقام بالوساطة في ذلك يحيى بن إسحق طبيب عبد الرحمن، وكان صديقاً لعمر بن حفصون، فبذل في سبيل ذلك جهده، وعاونه الحاجب بدر لدى الناصر، فاستجاب الناصر لعقد الصلح مع عمر، مع الحذر من غدره ومكره، واتصل يحيى في ذلك مع جعفر بن مقسم أسقف ببشتر، وعبد الله بن أصبغ بن نبيل، وودنا ابن عطاف، وهم أكابر رجال ابن حفصون وخاصته، وكانوا يميلون إلى عقد الصلح والدخول في كنف الطاعة. وسار يحيى نفسه لمقابلة ابن حفصون، ووضع معه شروط الصلح، وعاد إلى قرطبة، وأقر الناصر تلك الشروط،
(١) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة ٦١ ب و٦٢ أ.