للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أواخر أيامه، فأظهر جعفر يوم موت أبيه لجميع نصارى ببشتر أنه يعتقد دينهم، ويدين بالنصرانية معهم، وزعم أن أباه كان يعتقد ذلك ولا يظهره، وجمع إلى نفسه ثقاته منهم، مع القسيسين والرهبان دون سائر الناس، فتولوا تجهيز والده معه، ودفنه على سنة النصارى، بعد أن أمر بسد باب القصبة، وحجاب باقي الناس من نصارى وغيرهم، ولاطف جعفر إخوته، ووعدهم بالجميل حتى سلموا له، قال الرازي: " وكان جعفر في ذاته متهوراً سخيفاً، جباناً ضعيف السيما، ذميماً، جسوراً حقوداً، منافساً لمن يعمل عنده، كنوداً لمن استرسل إليه، موالفاً للسفال، مستصحباً للأرذال، لم تسم همته إلى مروءة، ولا انطوت نيته على جميل، ولا عرف قدر ما مهده له والده مع السلطان من فراش الصلح، وبسط من ظلال الأمن، بالتسجيل له على أعماله، وإمضاء ذلك بعده لعقبه، بل غمط النعمة عليه، ورفض الساعين فيه لأبيه، وعقد شهادات جماعة من السفلة والطغام، على ابن مقسم الأسقف وابن نبيل وابن عطاف حاجبيه، فإنهم سعوا في الغدر بوالده عند السلطان، وأرادوا إراحة سلطانه عن ولده بعده " (١).

بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى سير عبد الرحمن قواته إلى أبدة فاقتحمتها وأسر سليمان، وأخذ إلى قرطبة حيث عفا عنه عبد الرحمن وضمه إلى جيشه؛ وكذا استسلم عبد الرحمن بن حفصون، وكان ممتنعاً بحصن طُرُّش، وكان أخوه جعفر صاحب ببشتر، قد ضايقه، وحاول أن ينتزع منه طرش، فالتجأ عندئذ إلى الأمير، وأذعن للطاعة، على أن يسلم حصنه ويمنح الأمان لنفسه وأهله، فأجابه الأمير إلى ما طلب، وتسلم منه الحصن، واستقدمه إلى قرطبة وأجرى عليه الصلات، وكان أديباً شاعراً. واستبد جعفر بحكم ببشتر وما حولها، وآثر عبد الرحمن أن يهادنه مدى حين، وأن يقره على أعماله. وفي سنة ٣٠٨ هـ (٩٢٠ م) قتل جعفر في ببشتر ضحية مؤامرة قيل إنها من تدبير أخيه سليمان، وقيل من جهة أخرى إنه رأى أن يعود إلى الإسلام اكتساباً لمودة السكان والجند المسلمين، فاغتاله نفر من جنده النصارى (٢). فقام أخوه سليمان مكانه في ببشتر، وأقره عبد الرحمن


(١) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة ٦٥ ب.
(٢) ابن خلدون ج ٤ ص ١٣٥، والبيان المغرب ج ٢ ص ١٨٩، وراجع: Dozy: Hist.,Vol.II.p. ١٠٨

<<  <  ج: ص:  >  >>