للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما نقرأه في تعليقات بعض أكابر النقدة المحدثين أمثال دوزي وسيمونيت، وذلك بالرغم من كونهم لم ينسوا أن يذكروا في نفس الوقت أن ابن حفصون قد نشأ سفاحاً وقاطعاً للطرق، لا تحدوه أية نزعة وطنية أو غاية مثلى. بيد أن سيمونيت، وهو مؤرخ النصارى المستعربين، يحاول أن يبرر حسن تقديره وتصويره لحركة ابن حفصون، بأن قيامه اتخذ فيما بعد " شكلا أكثر نبلا، وتحوله من زعيم عصابة إلى زعيم حزب وأمة " (١). ويصفه دوزي بأنه " البطل الإسباني الذي لبث أكثر من ثلاثين عاماً يتحدى المتغلبين على وطنه، والذي استطاع مراراً أن يجعل الأمويين يرتجفون فوق عرشهم " وأنه " كان بطلا خارقاً لم تنجب إسبانيا مثله منذ أيام الرومان " (٢). أما نحن فنرى في مثل هذه الآراء مبالغة وإغراقاً، وأنها ليست إلا ثمرة نزعة من التعصب الديني والجنسى، الذي يطبع النقد الغربي، في كثير من المواطن، وأن ابن حفصون بالرغم من صلابته وقوة عزمه، وبراعة خططه، لم يكن سوى قاطع طريق، وثائر من طراز قوي عنيف. أجل إن ابن حفصون، كان يدعو منذ اشتد ساعده، إلى ما يسميه قضية الاستقلال والحرية، وتحرير مواطنيه من نير المسلمين، بيد أنه لم يكن في هذا الزعم سوى مخادع سياسي، يسعى إلى كسب الصحب والأنصار لتقوية مركزه، ودعم سلطانه، ولم يكن يصدر في مغامراته وحروبه أو في أعماله خلال ثورته الطويلة، عن أية نزعة نبيلة، أو تصرف تطبعه الشهامة، والعزة القومية، بل كانت أعماله وتصرفاته كلها، بغى صراح، وإجرام في إجرام.، وامتهان لكل المبادئ الأخلاقية، وكل مقتضيات الشرف والمروءة والشهامة. ومن كان هذا شأنه، فإنه من التعسف أن تُسبغ عليه صفات البطولة، وثوب التحرير والوطنية.

وترك ابن حفصون أربعة بنين، هم سليمان وعبد الرحمن وجعفر وحفص، وإبنة هي "أرخنتا"؛ وكان له ولد آخر هو أيوب اتهمه أبوه عندما اعتل ذات مرة، بمحاولة الفتك به وقتله (٣). فقام سليمان في أبَده، وقام جعفر مكان أبيه في ببشتر بعهد منه، وكان أبوه قد قلده عهده في حياته، وأخذ له البيعة في


(١) راجع: J.Simonet: Histoira de los Mozarabes de Espana (Madrid ١٨٩٧) p. ٥١٦
(٢) Dozy: Histoire ; V.II.p. ١٠٦
(٣) أعمال الأعلام لابن الخطيب ص ٣٢؛ ونقط العروس لابن حزم ص ٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>