وقع حادث كان له أكبر الأثر في تفكك عرى الثورة وانحلالها. ذلك هو وفاة عمر بن حفصون زعيم الثورة الكبرى، ومثير ضرامها في غربي الأندلس، توفي بعد مرض طويل، في الثانية والسبعين من عمره. وكان ابن حفصون في الواقع أخطر ثائر عرفته الأندلس منذ الفتح، وكانت ثورته تمثل أخطر العناصر التي لا تدين بالولاء لحكومة قرطبة، وفي مقدمتها طائفة المولدين الذين ينتمي إليهم، وهم سلالة القوط والنصارى الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح، وغدوا جزءاً من الأمة الأندلسية. وكان أولئك المولدون بالرغم مما تسبغه عليهم حكومة قرطبة الإسلامية من ضروب الرعاية والتسامح، يضمرون لها الخصومة والكيد، وينتهزون كل فرصة للخروج عليها. وكانوا يلقون العون دائما من زملائهم النصارى المعاهدين رعايا الحكومة الاسلامية. وقد رأينا كيف دبر ابن حفصون حركته ونظم ثورته في المناطق الجنوبية الغربية، فيما بين رندة ومالقة، وقد كانت فضلا عن وعورتها ومناعتها الطبيعية، تضم كثرة من المولدين والنصارى، وكان من هؤلاء معظم أنصاره وجنده. ولم ير ابن حفصون نفسه وهو يرجع إلى أصل نصراني، بأساً من أن ينبذ الإسلام ويرتد إلى النصرانية لكي يذكي حماسة أنصاره. وهكذا كانت وفاة هذا الثائر الخطر ضربة شديدة للثورة، وتنفست حكومة قرطبة لوفاته الصعداء، بعد أن شغلها زهاء ثلاثين عاماً.
قال الرازي:" وكان أول قيامه بالفتنة، وصدعه عصى الجماعة، وامتناعه بقلعة ببشتر منبر المعصية، من ثلاثين سنة، ركب فيها من العيث في الخلق، والفساد في الأرض بغير الحق، ما لم يركبه مارق بالأندلس، منذ دانت للمسلمين، فعد مهلكه فاتحة الإقبال، وطالعة السعد، واجتثاث الفتنة "(١).
وقد بالغت التواريخ النصرانية في تصوير ثورة عمر بن حفصون الطويلة المدى، واعتبارها ثورة قومية تهدف إلى غاية وطنية سامية، وهي تحرير وطنه - إسبانيا - من نير المتغلبين عليه، وأنه كان في مناوأته لحكومة قرطبة الإسلامية يجيش بهذه النزعة، ويهدف إلى هذه الغاية. وعمل النقد الحديث على إبراز هذه الصورة، وعلى اعتبار ابن حفصون بطلاً قومياً، جديرًا بالتقدير والاحترام.
(١) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة ٦٥ ب.