للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان يومئذ صبياً في الثانية عشرة من عمره، ونزل على مدينة ببشتر ذاتها، وبها حفص، وشدد عليها الحصار، وابتنى إزاءها حصناً للتضييق عليها، وفرق قواته لمنازلة بقية الحصون الثائرة، ثم ترك قوة لمتابعة الحصار. واستمر الحصار بضعة أشهر، حتى اضطر حفص أن يذعن أخيراً إلى التسليم؛ فسلم المدينة بالأمان إلى القائد سعيد بن المنذر، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة ٣١٥ هـ (يناير سنة ٩٢٨ م) وأخذ حفص بن عمر وأهله وأصحابه، أسرى إلى قرطبة، فعفا عبد الرحمن عنهم، وأحسن مثواهم، وضم حفصاً إلى جيشه.

وفي العام التالي سنة ٣١٦ هـ، سار عبد الرحمن إلى ببشتر لتنظيم شئونها، فخرج من قرطبة في منتصف شهر المحرم منها (مارس سنة ٩٢٨ م) ورافقه ولده الحكم، ووزيره أحمد بن محمد بن حُدير، واستخلف على المدينة أحمد ابن عيسى بن أبي عبدة. وقصد إلى ببشتر بطريق أشونة، فوصلها في العشرين من المحرم، ودخلها وجال في أرجائها، وألفاها منقطعة النظير من حيث الحصانة والمنعة. فعين لها والياً من قبله، وعمد إلى تطهيرها من آثار ابن حفصون، فصلى في مسجدها الجامع، وأمر أن تقام به الصلاة. وكان ابن حفصون في أواخر أيامه، قد أثار حول موقفه من تذبذبه حول إظهار الإسلام، وجنوحه إلى النصرانية، ريباً حول حقيقة الدين الذي كان يعتنقه. فأمر الناصر بنبش قبره، وإخراج جثته وفحصها. فتبين من هيئتها، وكونه ملقى على الظهر، مشبوك الذراعين على الصدر، ومستقبلا المشرق، أنه دفن على دين النصرانية، وعاين ذلك الناس من العسكر وغيرهم، وشهد بذلك الفقهاء المرافقون، واتفق الجميع على أنه هلك على دين النصرانية. فأمر عبد الرحمن بحمل الجثة، إلى قرطبة، حيث علقت في أعلى الجذوع على باب السًّدة يكتنفها أشلاء ولديه المصلوبين قبله، وهما حكم وسليمان. واستمرت أشلاؤهم معلقة على جذوعها عبرة للناظرين حتى سنة ٣٣١ هـ، حيث حملها مد النهر الطامي في تلك السنة ولأحمد بن محمد الرازي في صلب أوصال ابن حفصون قصيدة يقول فيها:

تبدي لمرأي العين مجسماً ... وقام من الأجداث خلقاً متمماً

فما كان إلا مثل من نام نومة ... فأنبه عنها حين أغفي وهوّما

<<  <  ج: ص:  >  >>