خافق القلب، لم تطب نفسه على الخروج خواراً، ولا سكن منه الأمان نفاراً، يخشى كل يد أن تضبط عليه، وكل شجرة أن تتعلق به، قد خامره من الرعب ما كاد أن يربى على العطب، فطمأن الوزير أحمد محمد بن حدير من جزعه، وسكن من جأشه، ووفاه من آمالنا المبسوطة ليناً وثق به واطمأن إليه، فخرج آخر الخارجين، ولحق بالآمنين، فأصبحت مدينته بقعة الضلالة، ومنبر الخلاف، ومعدن الغواية، بما أحاط بها من أسوارها وأبنيتها وقصابها، وبداخلها من جناتها ومصانعها، مغوية من قطينها، خاوية على عروشها، كأن لم يغن بها ساكن، ولا استوطنها قافل ".
ثم يقول إنه أمر بعد ذلك بتخريب ببشتر، وحط أسوارها، وإنزال جدرانها، وهدم كل قايم فيها من قصرها ودورها ومخازنها، وإعادتها جبلا أجرد، على ما كانت عليه لأول خلقها. " ثم استقدمنا حفصاً اللائذ بالتوبة إلى ما تفضلنا عليه من التأمين والتمكين، وعدنا عليه من العفو والتطمين، وأخذنا فيه بالفضل المبين، الذي جعلنا الله أهله، وغلب على مذهبنا إيثاره، وجمعنا له من ذلك ما اغتبط به، وسكن إليه، وقرر نفسه عليه، فاعلم ذلك، وقف عليه، واستشعر حمد الله، ومر بقراءة كتابنا هذا إليك على المسلمين قبلك في جامع موضعك، ليحمدوا الله عز وجهه، على عظيم ما اصطنعه إليهم، ووهبه لهم، وليحدثوا من شكره تعالى على ما درأ عنهم، والتقرب بنوافل الحمد إليه، ما يستدام له رضاه عز وجهه، ويستجلب به المزيد من نعمه، إن شاء الله وهو المستعان، وكتب يوم الخميس لخمس من ذي الحجة سنة خمس عشرة وثلث ماية ".
ويقول لنا الرازي، إن الناصر لما خرج إلى ببشتر، وأمر بهدمها، أمر بالإبقاء على القصور والقصاب، التي أبقاها لعماله وحشمه الذين ندبهم للقيام بها، فدكت أسوارها، وحطت أعلامها، وأنه أي الناصر أصدر كتاباً بحوادث ببشتر، والأمر بهدمها، وهدم مسجدها الذي أقامه ابن حفصون، لأنه كان ستاراً لفسقه المسلمين، والأمر بإحراق منبره " الذي دعى فيه للخنزير الضال، ومن خلفه من نسله الخبيث، وأعلن عليه بدعوة الشيعة " (١).
(١) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحات ٩٤ ٩٥ و٩٦.