وهو مقام الملك، قصراً جديداً سماه دار الروضة، جلب إليه الماء من فوق الجبل، واستدعى المهندسين والبنائين من كل فج، وأنشأ في ظاهر قرطبة متنزهات عظيمة ساق إليها الماء من أعلى الجبل فوق قناطر بديعة. ومع ذلك فقد كانت قرطبة بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر، من استكمال الفخامة الملوكية، والقصور والميادين والرياض الشاسعة، بل كانت تضيق بهذه المرافق الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل، حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلا ومتنزها ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة. فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه، وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية عظيمة، فأنشأ مدينة الزهراء. ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين، وأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته "الزهراء" وأنه ورث من إحدى جواريه مالا كثيراً، فأمر أن يخصص لافتداء الأسرى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسرى من يفتدى، فأوحت إليه "الزهراء" بأن ينشئ بهذا المال، مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها (١). بيد إنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك، والترفع بمظاهره وخصائصه، عن المظاهر العامة، لعاصمة مكتظة زاخرة.
والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء، كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على كر العصور مظهر الملك الباذخ، والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... مُلْك محاه حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان