للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة، على قيد خمسة أميال أو ستة منها، في سفح جبل يسمى جبل العروس (١). وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة ٩٣٦ م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم، بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة (٢)، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية (٣). وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من ألمرية وريُّه، ومن قرطاجنة إفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية، وجلب إليها من سواري الرخام أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرين سارية (٤). وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ست آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر، أعني مدى خمسة وعشرين عاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد ولده الحكم (٥). وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته، حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة، وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلا سمي بقصر الخلافة، صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة، وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة (٦). وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء، وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير المنقوش بالذهب، الذي أهدي إليه من قيصر


(١) مختصر نزهة المشتاق للادريسي (طبع رومة) ص ١٩٣؛ والمسالك والممالك لابن حوقل ص ٧٨. ويسمى ابن حوقل هذا الجبل بجبل بطلش.
(٢) البيان المغرب ج ١ ص ٢٤٧، ونفح الطيب ج ١ ص ٢٦٦.
(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٤٤.
(٤) البيان المغرب ج ٢ ص ٢٤٦، ونفع الطيب ج ١ ص ٢٤٦، وأعمال الأعلام ص ٣٨
(٥) نفع الطيب ج ١ ص ٢٦٥.
(٦) نفح الطيب ج ١ ص ٢٤٦ و٢٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>