للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه. وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم، سوى الدجاج والحجل وغيرها (١). قد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة، سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة، وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم، يحتوي على أربعة آلاف غرفة، وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة، أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير.

ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم ولد الناصر - فيصف موقعها، ويقول " إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وإن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلدة (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذال لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع " (٢).

ولكن الزهراء لم تعمر طويلا كقاعدة ملوكية، فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة ٣٢٩ هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة ٣٦٦ هـ، ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولا خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية عقب وفاة الحكم، إذ استطاع الوزير محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور) أن يتغلب على الدولة وأن يحجر على الخليفة هشام المؤيد ولد الحكم حسبما نفصل بعد؛ ثم رأى أن ينقل قاعدة الحكم إلى ضاحية ملوكية جديدة أنشأها لنفسه بجوار قرطبة (سنة ٣٦٨ هـ) على نهر الوادي الكبير وسماها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودور الحكومة، واتخذ لنفسه سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور.


(١) نفح الطيب ج ١ ص ٢٦٥.
(٢) المسالك والممالك ص ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>