وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها، وعهد خلفه الذي أكمل بناءها.
وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أمية، ولم يبق بعد ذلك من دولتهم سوى الإسم. وقد بقيت الزهراء حيناً مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه - هشام المؤيد - ولكنها فقدت من ذلك الحين أهميتها السياسية وهيبتها الملوكية.
ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي ربيع الأول سنة ٤٠١ هـ (نوفمبر سنة ١٠١٠ م) زحفت قوات البربر ومعها سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من الخليفة هشام المؤيد، والفتى واضح الحاجب المتغلب عليه، واقتحموا في طريقهم مدينة الزهراء، وفتكوا بحاميتها وسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر، ولبثوا فيها بضعة أشهر. والظاهر أن الضربة كانت قاضية فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة بعد أن غادروها سوى أطلال دارسة. ولا يكاد اسم الزهراء، يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي، إلا كأثر عصفت به صروف الدهر، وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها، وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد أشاد بجمالها وفخامتها، جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة. ومما قاله ابن زيدون وهو من أعظم شعراء عصر الطوائف، يشيد بالزهراء، ورائع ذكرياتها:
خليلي لا فطر يسرُّ ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح ... تقضت مبانيها مدامعه نزحا
مقاصير ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا
يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا