وبلغت الأندلس في عهد الناصر ذروة الرخاء والنعماء والأمن والعزة، وازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم والآداب والفنون، وشمل الأمن سائر أطراف المملكة، ورخصت كلفة العيش. ونمت قرطبة نمواً عظيماً حتى بلغ سكانها أكثر من خمسمائة ألف، وبلغت مساجدها ثلاثة آلاف، ومنازلها أكثر من مائة ألف، وحماماتها العامة ثلاثمائة، وبلغت أرباضها أو ضواحيها ثمانية وعشرين، هذا عدا المدينة الوسطى، وكان لقرطبة يومئذ سبعة أبواب: باب القنطرة، وباب اليهود، وباب عامر، وباب العطارين، وباب طليطلة، وباب عبد الجبار، وباب الجوند. وكان للقصر الأموي ستة أبواب: باب السُّدة، وباب الجنان، وباب العدل، وباب الصناعة، وباب الملك، وباب الساباط، وهو في المسجد الجامع. وازدانت قرطبة بعدد كبير من القصور والمتنزهات الفخمة، ودوت شهرتها في الآفاق، ووصلت إلى قاصية الشمال، حتى أن الراهبة السكسونية هروسوفيتا التي اشتهرت بنظمها في أواخر القرن العاشر، أشادت في قصائدها اللاتينية بمحاسن قرطبة ووصفتها بأنها " زينة الدنيا "(١).
- ٣ -
كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة، وكان مؤسسها عبد الرحمن الداخل قد عمد بتأثير الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام ملكه، والخطوب والثورات الجمة التي أثارها خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، إلى الاسترابة بالعرب، واصطناع البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة، ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته.
وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها. ومنذ عهد الحكم المنتصر (١٨٠ - ٢٠٦ هـ) نرى نفوذ الموالي والصقالبة يشتد في البلاط وفي الدولة.
وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك والبذخ، فغص البلاط الأموي في عهده بالخدم والحشم، من المماليك والصقالبة، بيد أن نفوذهم لبث مدى حين بعيداً عن شئون الدولة العليا، قاصراً على شئون القصر والخاص.
واقتفى عبد الرحمن الناصر سياسة جده الداخل، في الاسترابة بالقبائل
(١) البيان المغرب ج ٢ ص ٢٤٧. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. ١٧٤