للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العربية ذات البأس والعصبية، وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة، واستأثر بكل سلطة حقيقية في الدولة، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده، فلم يبق سلطة فعلية لحاجب أو وزير. وكان الناصر حريصاً على سلطانه المطلق، لايني عن سحق كل من حدثته نفسه بالوقوف في سبيله، ولو كان أقرب الناس إليه. ولما نمى إليه أن ولده عبد الله يأتمر به مع بعض فتيان القصر ورجال الدولة، لأنه آثر أخاه الحكم بولاية العهد وتصريف الشئون، وأن جماعة من أهل قرطبة بايعوه بالخلافة، لم يحجم عن أن يقضي بإعدامه، وإعدام جميع من اتجهت إليهم شبهة الاشتراك معه، وكان ذلك في سنة ٣٣٨ هـ (٩٤٩ م). وكان عبد الله من أفضل أبناء الناصر علماً وعقلا وبصراً بالأمور، وكذلك قضى الناصر بإعدام بعض أبناء عمومته وأخيه القاضي ابن محمد حين قامت الأدلة على ائتمارهم به (١).

وعهد الناصر بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء، وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء، وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص، ويوليهم من السلطان والنفوذ ما لا يوليه سواهم (٢).

وقد كانت كلمة " الصقالبة " تطلق في الأندلس على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية (السلافية) الحقيقية، ثم غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يعملون في البطانة وفي القصر. وكان أولئك الصقالبة مزيجاً من الجليقيين (النصارى الإسبان) والألمان والفرنسيين واللونبارد والإيطاليين (٣)، وكان معظمهم يؤتى بهم أطفالا بواسطة خوارج البحر (القراصنة) وتجار الرقيق، وكانوا يختارون من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادىء الإسلام، وقد نبغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد. ومنذ عهد الناصر يشتد نفوذ الصقالبة في شئون الإدارة والحكم، فضلا عن القصر والخاص، ويعهد إليهم بالمناصب الكبرى في القصر والإدارة والجيش. وما لبث أن سما شأنهم وتوطد سلطانهم، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة، وفاق عددهم في عهد الناصر أى عهد آخر، حتى قدر بعض المؤرخين عددهم


(١) ابن خلدون ج ٤ ص ١٤٣، والبيان المغرب ج ٢ ص ٢٤٤، وأعمال الأعلام ص ٣٩.
(٢) ابن خلدون ج ٤ ص ١٣٨.
(٣) ابن حوقل في المسالك والممالك ص ٧٥؛ وكذلك Dozy: Hist, Vol. II.p. ١٥٣

<<  <  ج: ص:  >  >>