للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرنجية، استردت قسطنطينية زعامتها الدبلوماسية في النصرانية. ولما قامت الإمبراطورية الجرمانية في القرن العاشر، استطاعت أن تبسط زعامتها السياسية على أواسط أوربا وغربيها، وهكذا كانت زعامة النصرانية تتردد في هذه الحقبة بين شرقي أوربا وغربيها. هذا بينما لبثت قرطبة تستأثر وحدها بزعامة الإسلام في الغرب حتى نهاية القرن العاشر.

وقد كان هذا العصر الذي اجتمعت فيه تلك الزعامات الدينية والسياسية القوية، أحفل العصور بصلات الإسلام والنصرانية. فكانت ثمة معاهدات وسفارات ومراسلات وعلائق دبلوماسية، بين قرطبة وبين معظم الأمم النصرانية، وقد بلغت هذه الصلات ذروتها في عصر الناصر لدين الله، وتوالت وفود الأمم النصرانية يومئذ على بلاط قرطبة، تنشد الحلف والصداقة والمهادنة، من زعيم الإسلام في الغرب.

وكان بلاط قسطنطينية بالرغم من نأيه عن مقر الخلافة الأندلسية، وعدم اتصاله بها، بأية حدود أو صلات جغرافية مشتركة، في مقدمة الساعين إلى توثيق الروابط الودية مع بلاط قرطبة. ففي سنة ٣٣٦ هـ (٩٤٨ م) (١)، وفدت على الناصر رسل قسطنطين السابع قيصر قسطنطينية المعروف " ببورفيروجنتوس " (٢) ومعهم طائفة من الهدايا النفيسة. وتقدم إلينا الرواية الأندلسية عن هذه السفارة تفاصيل شائقة، تلقي ضوءاً على نظم الرسوم الدبلوماسية في هذا العصر، فتقول لنا إن الناصر بعث رسله للقاء السفراء البيزنطيين حين وصولهم إلى الشاطىء لإرشادهم وخدمتهم، ولما وصل الركب إلى مقربة من قرطبة، بعث بعض قواته للاحتفاء بهم، ثم بعث الفتيين ياسراً وتماماً فصحباهم إلى دار الضيافة، بقصر ولي العهد الحكم، في ربض قرطبة، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة، ورتب لخدمتهم طائفة من الموالي والحشم. وفي اليوم الحادي عشر من


(١) هذه هي رواية ابن خلدون (ج ٤ ص ١٤٢). وفي رواية أخرى أنها وقعت سنة ٣٣٨ هـ (نفح الطيب ج ١ ص ١٧١). وذكر الطبيب الأندلسي ابن جلجل وقد عاش قريباً من عصر الناصر، أنها وقعت في سنة ٣٣٧ هـ (راجع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة - طبعة ميللر - ج ٢ ص ٤٤٧). وذكر صاحب البيان المغرب أنها وقعت في سنة ٣٣٤ هـ (ج ٢ ص ٢٣٩).
ولم نعثر في تواريخ الدولة البيزنطية على تفاصيل هذه السفارة، ولكن الرواية الإسلامية واضحة جلية.
(٢) ومعناها الأرجواني.

<<  <  ج: ص:  >  >>