ملك الدولة الأموية بالأندلس، لبث بقية عهده يعمل على توطيد ملكه الفتى، وحمايته من الثوار والخوارج، ولم تتح له فرصة للتفكير في الغزوات الخارجية. بل لقد اضطر أن يقف موقف المدافع من مملكة الفرنج ومن عاهلها شارلمان، الذي حاول أن يغزو الولايات الإسلامية، بمؤازرة الزعماء الخوارج في الثغر الأعلى، واضطر أن يغضي مدى حين عن غزوات المملكة النصرانية الناشئة، لأراضي الأندلس وقواعدها الشمالية.
فلما تولى ولده هشام الملك، واستطاع أن يقضي على ثورة أخويه سليمان وعبد الله، وجه عنايته إلى مقارعة المملكة الفرنجية، ورد خطرها عن الأندلس، وبعث إلى الشمال في سنة ١٧٦ هـ (٧٩٢ م) بجيش كثيف بقيادة حاجبه عبد الملك ابن عبد الواحد بن مغيث، فعبر جبال البرنيه، ونشبت بين المسلمين والفرنج في بسائط سبتمانيا عدة معارك كانت سجالا، وجدد بذلك عهد الغزو والجهاد فيما وراء البرنيه.
وعاد الفرنج في عهد الحكم بن هشام، فعبروا جبال البرنيه في سنة ١٨٥ هـ (٨٠١ م) وغزوا الثغر الأعلى وافتتحوا ثغر برشلونة، واقتطعوا بذلك جزءاً من الأندلس الشمالية. ولم تمض بضعة أعوام أخرى، حتى عبر الفرنج البرنيه للمرة الثانية (١٩٣ هـ - ٨٠٩ م) وحاولوا الاستيلاء على مدينة طرطوشة، ولكن المسلمين استطاعوا إنقاذها.
وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم سارت حملة بحرية أندلسية لغزو الجزائر الشرقية، وقد رأينا فيما تقدم كيف غدت مياه الأندلس الشرقية مركزاً لحملات البحارة المسلمين، يسيرون منها نحو الشمال والشرق إلى الشواطىء والجزائر القريبة، ينقضون عليها طلباً للغنيمة والسبي، وكيف بدأت من ذلك الحين محاولات المجاهدين المسلمين، لغزو شواطىء فرنسا الجنوبية وأحواز مصب الرون.
وقد فصلنا فيما تقدم من كتابنا أخبار الغزوات الأندلسية الرسمية فيما وراء البرنيه، وأشرنا بإيجاز إلى بداية عهد الحملات البحرية الأندلسية الخاصة (١). سنحاول في هذا الفصل أن نستعرض لمحة من أخبار هذه الحملات والغزوات الإسلامية غير الرسمية البحرية والبرية، إلى شواطىء فرنسا الجنوبية، وما يجاورها