من سهول ليجوريا وهضاب سويسرة، ومما يجدر ذكره أن الرواية الإسلامية قلما تشير إلى هذه الغزوات بكلمة؛ وربما كان ذلك راجعاً إلى طبيعة هذه الغزوات والمغامرات غير الرسمية، التي كانت تنظمها جماعات خاصة من المجاهدين لا تربطها بحكومة قرطبة صلة رسمية، ولا تعتمد إلا على جهودها ومواردها الخاصة.
بدأت هذه الغزوات الأندلسية للشواطىء والثغور الفرنجية منذ أوائل القرن التاسع. وكان معظمها حملات بحرية، قوامها جماعات من المجاهدين والزعماء المغامرين. ففي سنة ٨٠٦ م غزت إحدى هذه الجماعات البحرية المجاهدة جزيرة كورسيكا (قورسقة)، وهزمت الأسطول الفرنجي الذي بعثه ببين ابن شارلمان ملك إيطاليا لقتالهم، وعادت بكثير من الغنائم والسبي. وتوالت بعد ذلك غزوات البحارة الأندلسيين لشواطىء كورسيكا وسردانية، وهما يومئذ أغنى جزر البحر المتوسط. وكذلك توالت غارات البحارة المسلمين على شواطىء فرنسا الجنوبية.
وتعني الرواية الكنسية والفرنجية المعاصرة بتدوين هذه الغزوات الإسلامية، وتصف عصفها وعيثها، وما كانت تحدثه من الرعب بين السكان النصارى، وتقول لنا إن البحارة المسلمين، ذهبوا في الجرأة إلى حد التجول في مياه الأطلنطيق، والإغارة على شواطىء فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الأطلنطيق حتى مصب نهر اللوار (١).
وفي سنة ٨٣٨ م سار أسطول أندلسي من مياه طرّكونة ومياه الجزائر الشرقية إلى مياه بروفانس، وغزا ثغر مرسيليا وما حوله من الأراضي، وأثخن فيها، وحمل الغزاة كثيراً من الغنائم والسبي. ولم يستطع ملك فرنسا الضعيف لويس ابن شارلمان مقاتلة الغزاة. ثم عاد البحارة المسلمون وغزوا شواطىء بروفانس مرة أخرى، ونفذوا إلى مصب نهر الرون، واقتحموا مدينة آرل وخربوا كنائسها.
وتوالت بعد ذلك غزواتهم لهذه المنطقة. وفي سنة ٨٥٠ م في أواخر عهد عبد الرحمن ابن الحكم، عبر موسى بن موسى بن قسي صاحب سرقسطة وزعيم الثغر الأعلى، جبال البرنيه، وغزا سبتمانيا وأثخن في نواحيها، واضطر شارل الأصلع ملك فرنسا أن يهادنه، وأن يعقد الصلح معه، وأن يسترضيه بالهدايا والتحف. ومن
(١) جمعت أقوال الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة، عن هذه الغزوات الإسلامية، في موسوعة Bouquet التي سبقت الإشارة إليها غير مرة، بنصوصها اللاتينية أو الفرنسية القديمة، وقد اعتمدنا عليها في كثير من حوادث هذا الفصل.