للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الميلادي، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير الحضارة الأوربية، لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلا بين مسلمي الأندلس والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها العقلي والاجتماعي أعظم الآثار.

وقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا، تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها الرواية الكنسية المعاصرة في أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالا لا تذكر بجانب أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم (١)، وفي ذلك يقول المستشرق رينو: " إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب ما زالت ماثلة في جميع الأذهان. لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطالت إقامتهم بعد الغزوات النورمانية والمجرية، وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك لأن العرب (٢) دون النورمانيين والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة، ثم إنهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصليبيين في اسبانيا وإفريقية وآسيا، أسبغت على اسمهم بهاء جديداً، بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التي يتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. أما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا " (٣).


(١) Reinaud: ibid , p. ٣١٠
(٢) يلاحظ أن كلمة " العرب " هنا يجب أن تفهم بأوسع معانيها، فالمقصود بها هنا " الغزاة المسلمون ". ومنذ أواخر القرن الثامن الميلادي تغيض الصبغة العربية عن هذه الفتوحات، وتغدو فتوحات إسلامية، ينضوي تحت لوائها العرب وغيرهم من أبناء المجتمعات الإسلامية، التي قامت في إفريقية واسبانيا.
(٣) Reinaud: ibid; p. ٣١١-٣١٢. وقد اعتمدنا على مؤلف هذا العلامة في كثير من هذه الملاحظات الخاصة بآثار العرب (المسلمين) في جنوب فرنسا.

<<  <  ج: ص:  >  >>