إليها مختلف الغراس من المشرق، وأنشأوا بها القناطر العظيمة. وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ولقنوها لسكان تلك الأنحاء. ويقال إن " القمح الأسمر" الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره، وكانوا أول من زرعه بفرنسا، والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من اسبانيا وإفريقية إلى شواطىء الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج "القطران" الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، وما زال اسمه الفرنسي Quitran ينم عن أصله العربي.
ومن الحقائق الثابتة أيضاً، فضل العرب في تحسين نسل الخيول في تلك الأنحاء، وما يزال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في " كاماراج " في مقاطعة " لاند " من أعمال غسقونية، ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة، إنما هي من سلالة الخيول العربية، التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء.
ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا. فقد رأينا أن المسلمين أنشأوا بعض المستعمرات الزراعية، وتزوجوا من نساء تلك الأراضي وتناسلوا فيها. ولما تغلب عليهم النصارى وأخرجوا نهائيا من تلك الأراضي تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر، وقد لبث أبناء أولئك المسلمين المتنصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية والإسلامية.
هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها المسلمون مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع من الرقص يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. على أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة "التروبادور" Troubadour التي ظهرت في جنوبي فرنسا، وفي شمال إسبانيا وشمال إيطاليا، منذ القرن الحادي عشر