أقرب إلى المغامرة المؤقتة، منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الإستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين، يشتغلون قبل كل شىء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة وهذه المستعمرات الإسلامية النائية، خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطىء خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي ما تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في فن التحصينات والمنشآت الحربية. وهناك في جنوب فرنسا وفي بعض أنحاء إيطاليا الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية. ويرى البعض أن هذه الأبراج هي آثار عربية من مخلفات الغزاة كانت تبنى لعقد حلقات الاتصال، وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم. ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا أعني منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى "بالرباط". بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية، ليستعينوا بها على رد الغزاة.
وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لانجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب والمسلمين، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في العهد الأخير في منطقة تور سيوف ودروع قيل إنها عربية، من مخلفات الموقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج في سنة ٧٣٢ م (موقعة بلاط الشهداء).
ومن الحقائق التي لا شك فيها أثر المسلمين في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم، واستقروا في تلك الأرض وزرعوها، ومن المعروف أن العرب حولوا وديان اسبانيا المجدبة، إلى حدائق ورياض زاهرة، ونقلوا