للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها. وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة، بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية، وإضعاف جيوشها ومواردها. ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها (١). وقد استقروا بالفعل واستعمروا، حيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبيل البقاء، كما فعلوا في إقريطش (كريت)، حيث استقروا بها بعد افتتاحها زهاء قرن وثلث قرن (٨٢٧ - ٩٦١ م)، ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية. وكذلك استقروا مدى حين في باري وفي تارنت من ثغور إيطاليا الجنوبية وفي راجوزا (رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية؛ وكان لهم على شواطىء قلورية (جنوبي إيطاليا) مستعمرة زاهرة لبثت تسطع في هذه المياه عصراً.

ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً، في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك. ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب، لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته، ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً. ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك، بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الإستعمارية الحديثة، الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية " المتمدنة " من الجرائم المروعة في إفريقية وآسيا باسم المدنية والاستعمار.

* * *

والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب. ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في اسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت


(١) Finley: Byzantine Empire, Ch.III - I

<<  <  ج: ص:  >  >>