للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرى، من البارعين في نسخ الكتب، وتحقيقها، وتجليدها، وتصنيفها. وبذل في هذا السبيل من الجهود والأموال ما لم يسمع به، واجتمع لديه من نفائس الكتب في مختلف العلوم، ما لم يجتمع لأحد قبله. ولما ضاقت أبهاء القصر الخليفي، عن استيعاب العدد العظيم، من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر صرحاً عظيماً خاصاً بالمكتبة، افتن المهندسون في ترتيبه وتنسيقه، وإنارة أبهائه. قال ابن حزم " ملأ الأندلس بجميع كتب العلوم " وذكر لنا أن تليداً الفتى - وكان على خزانة العلوم بقصر بني أمية بالأندلس - أخبره أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط (١).

وعهد الحكم بإدارة المكتبة الأموية العظيمة إلى أخيه عبد العزيز. وعهد

بالإشراف على جامعة قرطبة وأساتذتها إلى أخيه المنذر. وكان يقضي معظم أوقاته بمدينة الزهراء، في أبهائها المنيفة وظلالها الهادئة، معتكفاً على القراءة والدرس برفقة صفيه محمد بن يوسف الحجاري، الذي كتب له تاريخ الأندلس والمغرب، وتواريخ أخرى لبعض المدن. وكان من أصفيائه في تلك المجالس أيضاً، الفتى سابور الفارسي، الذي قدم بدعوته إلى قرطبة، واختاره ليكون وصيفاً خاصاً له، وكان من أعلم أهل عصره (٢).

ولم يكن هذا الشغف بجمع الكتب، في عصر الحكم، قاصراً على الأمير، فقد عنى كثير من كبراء العصر وعلمائه، بانشاء مكتبات خاصة زاخرة بنفائس الكتب. وشغف النساء المثقفات كذلك بجمع الكتب، وإنشاء المكتبات، ومن أشهر هؤلاء عائشة بنت أحمد بن قادم، وكانت من أبرع نساء عصرها، علماً وأدباً وشعراً، وكانت خزانة كتبها من أغنى وأقيم المكتبات الخاصة. وكانت سوق الكتب في قرطبة، من أشهر الأسواق وأحفلها بالحركة. بل لقد سرى هذا الشغف باقتناء الكتب إلى النصارى واليهود أنفسهم، وكان الكثير منهم يجيدون اللغة العربية، ويتذوقون ثمرات التفكير العربي من أدب وشعر وفلسفة وغيرها.

وكان من أشهر هؤلاء الطبيب اليهودي حسداي، طبيب الحكم الخاص، وفي


(١) جمهرة أنساب العرب ص ٩٢. ونقلها ابن الأبار في الحلة السيراء ص ١٠٣.
(٢) Modesto Lafuente: Historia General de Espana ; T. III, p. ٣٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>