ويبدي النقد الحديث تقديره وإعجابه بتلك النزعة العلمية التي امتاز بها الحكم، والتي سادت كل عصره. فمثلا يقول لنا المؤرخ الإسباني موديستو لافونتي: " كانت دولة الحكم الثاني دولة الآداب والحضارة، كما كانت دولة أبيه دولة العظمة والبهاء. وإن الرواية العربية لتحبو الحكم بكثير من جميل الذكر. فهل نغضى نحن عن تسجيل إعجابنا بما لهذا الأموي المستنير من الصفات الباهرة، لأنه كان مسلماً ولم يكن نصرانياً؟ إن ذلك يعني أننا ننكر فضائل أمثال أوغسطوس وتراجان وأدريان وماركوس أوريليوس، لأن أولئك القياصرة العظام لم يكونوا نصارى. إن السلم الذي وطده أكتافيوس في اسبانيا الرومانية، قد وطده الحكم في اسبانيا العربية؛ وقد قدم الحكم، كما قدم أكتافيوس من قبل، الأدلة على أن الرغبة في السلم، لم تكن لأنه لا يعرف الحرب ولا النصر، ولكن لأنه كان يؤثر إلهام القريض، ويؤثر الكتب على خزائن السلاح، وإكليل الجامعات الحقيقي على إكليل الحروب الدموي.
لقد أعيد عصر أوغسطوس في اسبانيا بعد ألف عام في صورة جديدة، وقد تحول بلاط قرطبة إلى نوع من الأكاديمية العظيمة، وأغدق على ثمرات العبقرية فيض الإغداق والكرم الرائع، ونستطيع أن نقدر مدى التضحيات العظيمة، ومدى الصبر، والمثابرة، والنفقات التي أمكن أن يتحقق بها إنشاء تلك المجموعة المدهشة، من أربعمائة ألف إلى ستمائة ألف مخطوط، هي محتويات مكتبة قصر بني مروان ".
ثم يشير موديستو لافونتي بعد ذلك إلى أن هذا المستودع الزاخر من ثمرات العقل، وتلك الحضارة التي وصل إليها العرب في عصر الحكم، كانت قد وضعت بذورها من قبل، وتعاقب أمراء بني أمية منذ عبد الرحمن الداخل في تعهدها بالغرس والنماء، وقد كانوا جميعاً من أهل العلم والأدب، ومن حماة العلوم والآداب. ثم يختتم تعليقه على عصر الحكم بقوله:
" لقد جاء هذا الخليفة الشهير الذي يعشق الآداب في عهد سعيد من السلم، ولما كانت بذور التمدن موجودة من قبل، فقد تفتحت في ظل رعايته، وازدهر
(١) Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne ; Vol.II, p. ١٨٩