باستمرار بين السلطة المركزية أعني بين الإماوة وبين العصبية العربية، التي تحاول دائماً أن تقيم رياستها في الثغور والمدن على أساس الاستقلال المحلي. وقد استمرت هذه المعارك عصوراً، منذ عبد الرحمن الداخل، حتى جاء الناصر، فشدد في مطاردة العصبية العربية وتحطيمها، وآثر أن يعهد بالرياسة والسلطات المحلية إلى طوائف الصقالبة حسبما شرحنا ذلك من قبل. وفي عهد الحكم المستنصر كانت الأرستقراطية العربية، قد اضمحلت، وغاض نفوذها، واختفت كقوة سياسية واجتماعية تخشاها السلطة المركزية، وإن كانت بقيت كطبقة من الطبقات، وحلت محلها أرستقراطية من نوع جديد، قوامها القادة والرؤساء العسكريون، من الموالي والصقالبة، فكانت بذلك أرستقراطية سيف، وليست أرستقراطية قبيل أو عصبية، وبلغ الفتيان الصقالبة أيام الحكم، ذروة القوة والنفوذ والثراء، مثلما كانوا أيام أبيه الناصر. ويكفي أن نذكر هنا دليلا على ضخامة ثراء هؤلاء القوم، أن أحدهم وهو الفتى الكبير درّي الخازن، قام بإهداء مولاه الخليفة الحكم، منيته الغراء بوادي الرمان من ضواحي قرطبة، وكان قد أنشأها مغني ومتنزهاً، وأفاض عليها أروع صنوف البذخ والبهاء، وجعلها برياضها ومنشآتها جنة حقة. وقد قبل الحكم هدية فتاه، وقام بزيارة هذه المنية مع ولي عهده هشام وحاشيته، وأنفق فيها يوم استجمام ومسرة. وقد أجمع الخليفة ومرافقوه على أنهم " لم يشاهدوا في المتنزهات السلطانية أكمل ولا أعذب ولا أعم من صنيع درّي هذا "(١). هذا وأما الطبقة الوسطى فقد انحصرت في التجار ورجال الصناعة وغيرهم ممن استطاعوا أن يحرزوا بالتجارة والفنون في مختلف القواعد ثروات عظيمة. ويأتي بعد الطبقة الوسطى، طبقات الشعب الكادحة، وكانت على نحو ما يحدث في كل زمان ومكان، تبغض الطوائف الميسورة، وتنقم عليها نعماء العيش.
وكانت ثمة طبقة أخرى، ذات مميزات خاصة، هي طبقة المولدين أو بعبارة أخرى مسلمو الإسبان، وكانت تحتل مكانها بين الطبقات المتوسطة والميسورة.
وكان بينها الكثيرون ممن أحرزوا الجاه والنفوذ والثراء. بيد أن المولدين بالرغم من إسلامهم، كانوا يعتبرون أقل مكانة من المسلمين الأصليين. وكان المعروف
(١) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص ١٠٧.