للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هناك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية " وأم ولد " فقط، وأن الحكم توفي عنها دون تغيير في مركزها الشرعي (١).

استمرت صبح أيام الحكم، تتمتع في البلاط والحكومة، بنفوذ لا حد له, وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها، ويستمع لرأيها في معظم الشئون. وكانت كلمتها هي العليا، في تعيين الوزراء ورجال البطانة، وكان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك، حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية محمد بن أبي عامر الذي تقدم ذكره غير مرة، والذي رأيناه في أواخر عهد الحكم يشغل منصب مدير الشرطة وناظر الخاص.

كان محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري، يرجع إلى أصل من أعرق الأصول العربية. وكان جده عبد الملك بن عامر المعافري، أول من دخل الأندلس مع الفاتحين موسى وطارق، وظهر في الفتح بشجاعته وحسن بلائه. ونزلت أسرة بني عامر بالجزيرة الخضراء، وأقطعت حصن طرُّش الواقع على نهر وادي يارُه، الذي يصب على مقربة من جبل طارق، وظهرت بالعلم والوجاهة، وتولى كثير من أبنائها مناصب القضاء والإدارة؛ وولد محمد بن أبي عامر بحصن طرُّش وأنفق فيه حداثته. وكان أبوه عبد الله، المكني بأبي حفص من أهل العلم والتقى، عالماً بالحديث والشريعة، وكانت أمه بريهة بنت يحيى تنتمي إلى بني تميم. ونشأ محمد على تقاليد أسرته، مؤثراً حياة الدرس، ووفد على قرطبة حَدَثاً، ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الأدب والشريعة، وكان من أساتذته العلامة اللغوي أبو علي القالي البغدادي، وأبو بكر بن القوطية، والمحدث أبو بكر بن معاوية القرشي، وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال. وتنوه بهذا الطموح المدهش معظم الروايات المعاصرة واللاحقة (٢). وكان محمد بن أبي عامر في نحو


(١) البيان المغرب ج ٢ ص ٢٦٩. والمعجب للمراكشي ص ٧٤.
(٢) الحلة السيراء ص ١٤٨، والبيان المغرب ج ٢ ص ٢٧٤ هـ والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص ٢٤٣. والإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة ١٩٥٦) ص ٤٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>