للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه من كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه " (١).

وهكذا سار ابن أبي عامر إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أذكى الوسائل وأشدها، واستطاع بعزمه وصرامته وبارع خططه، أن يسحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوىء. ويجمل ابن خلدون معركة ابن أبي عامر مع خصومه في تلك العبارة القوية: " ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وتوقيعه، حتى استأصل شأفتهم، ومزق جموعهم" (٢). ولم يكن مهلك المصحفي، بعد سحق الصقالبة، سوى حلقة جديدة في سلسلة المطاردة الشاملة التي نظمها ابن أبي عامر لاستئصال شأفة خصومه ومنافسيه. ذلك أنه جد في نفس الوقت، في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، حتى سحق كل من يصلح منهم للولاية والرياسة، ومزقهم في البلاد شر ممزق، كل ذلك تحت شعار حمايته للمؤيد وللعرش، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء العصر:

أبنى أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب

غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب

ولما خلا الجو لابن أبي عامر من أولياء الخلافة، والمرشحين للرياسة، اهتم بتنظيم الجيش. فأنشأ صفوفاً جديدة من المرتزقة من زناتة وصنهاجة وغيرهما من قبائل البربر، ومن الجند النصارى من ليون وقشتالة ونافار، وبذل لهم الأجور السخية، واجتذب قلوبهم بعدله ورفقه وجوده. وغير أنظمة الجيش القديمة، فقدم رجال البربر، وأخر زعماء العرب، وأقصاهم عن مناصبهم، وفرق جند القبيلة الواحدة في صفوف مختلفة، وكانوا من قبل ينتظمون في صف واحد.

وكان العرب يتمسكون منذ أيام الفتح بوحدة القبيلة، لأن العصبية كانت في قبائلهم حتى أيام الناصر، ما تزال فتية قوية، ولكن الناصر عمل على سحق القبائل العربية، وإضعاف هيبتها، وجاء ابن أبي عامر فألفى الميدان ممهداً لخططه، فلم تلق سياسته الجديدة كبير معارضة (٣).


(١) راجع في محنة المصحفي، الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص ٤٨ و٤٩، والبيان المغرب ج ٢ ص ٢٨٥ - ٢٨٨، والحلة السيراء ص ١٤٢.
(٢) ابن خلدون ج ٤ ص ١٤٧.
(٣) البيان المغرب ج ٢ ص ٣١٦، وابن خلدون ج ٤ ص ١٤٨، ونفح الطيب ج ١ ص ١٣٧. وراجع: Dozy: Hist. Vol. II. p. ٢٣٢ & ٢٣٣

<<  <  ج: ص:  >  >>