للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستقدم الخليفة غالباً من الثغر، وقلده خطة الحجابة إلى جانب جعفر، فكانت ضربة جديدة للحاجب. ولكن جعفراً لم يسعه إلا الإذعان والسكوت، وقد أضحى يشعر شعوراً قوياً بالخطر المحدق به، وبأنه لم يبق له من الحجابة سوى الاسم، ولم ينخدع بما كان يبديه نحوه ابن أبي عامر من التلطف والمصانعة، وهو يقبض دونه على كل شىء في القصر والدولة.

وأخيراً وقعت النكبة المرتقبة، ففي الثالث عشر من شعبان سنة ٣٦٧ هـ، أصدر الخليفة أمره بإقالة الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، والقبض عليه وعلى ولده وآله، والتحفظ علي أموالهم. وبادر ابن أبي عامر إلى محاسبتهم واستصفاء أموالهم، وشدد في مطاردتهم، حتى مزقهم كل ممزق، وعوجل هشام ابن أخي الحاجب فقتل في مطبقه، وكان من أشد الناس عداوة لابن أبي عامر، وزج جعفر إلى ظلام السجن، يعتقل فيه حيناً، ثم يعتقل حيناً في داره، واضطر إزاء التشدد في مطالبته أن يبيع داره الفخمة بالرُّصافة، وكانت من أعظم دور قرطبة، وأمعن ابن أبي عامر في نكايته، واستجوابه بمحضر من زملائه القدماء؛ واستطالت محنة المُصْحفي أعواماً، عانى خلالها أروع آلام المهانة والذلة، وهو يستعطف ابن أبي عامر فلا يرحمه؛ واستمر سجيناً في مطبق الزهراء حتى توفي سنة ٣٧٢ هـ (٩٨٢ م). وقيل إنه قتل خنقاً في مطبقه، وقيل إنه دست إليه شربة مسمومة كانت سبب وفاته.

وكان المصحفي حسبما تقدم شاعراً جزلا، وقد أذكت المحنة شاعريته، وصدر عنه في مطبقه كثير من القصائد المؤثرة. ومن ذلك قوله:

صبرت على الأيام لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

فيا عجباً للقلب كيف اصطباره ... وللنفس بعد العز كيف استذلت

وما النفس إلاحيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلت

وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت

وقلت لها يا نفس موتي كريمة ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت

ويعلق ابن حيان على محنة المصحفي بقوله: " وكانت لله عند جعفر، في إيثاره هشاماً بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظ دنياه، وتسرعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسلط

<<  <  ج: ص:  >  >>