للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأضحت تنافس المدينة الخليفية في الضخامة والرونق.

وفي أوائل سنة ٣٧٠ هـ (٩٨٠ م)، انتقل محمد بن أبي عامر إلى مدينة الزاهرة، واتخذ له حرساً خاصماً من الصقالبة والبربر، وأحاط قصره الجديد بالحراس والحاشية، يرقبون كل حركة وسكنة في الداخل والخارج، وأقفرت بذلك مدينة الزهراء الخليفية، وهجر الوزراء والكبراء قصر الخلافة، وساد الصمت حول مركز الخلافة الشرعي؛ وأنشأ ابن أبي عامر في نفس الوقت حول القصر الخليفي سوراً وخندقاً، وأحكم غلق أبوابه، ووكل بها من يمنع دخول أي شخص أو نبأ إلى الخليفة دون علمه وإذنه. وبث عيونه على هشام وحاشيته، وأشاع أنه قد فوض إليه النظر في سائر شئون المملكة، لكي يتفرغ لشئون العبادة. وهكذا أهمل شأن الخليفة الفتى، وقطعت سائر علائقه مع الخارج، ولبث محجوباً في أعماق قصره، يغمره الخمول والنسيان (١).

ماذا كان موقف صبح إزاء هذا الانقلاب الحاسم في مركز ولدها ومركز الخلافة؟ لاريب أنها كانت بموقفها وتصرفها، أكبر معين لابن أبي عامر على إحداثه، وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها، يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه، وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطيرة التي يسعى إلى تحقيقها، هذا إذا لم نفترض أن تلك البشكنسية المضطرمة الجوانح، كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر قد انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة، وتناولها بلاذع التعليق والهجو، وظهرت بهذه المناسبة قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر ابن أبي عامر على هشام وعلائقه بصبح، فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه:

ْأليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه

وتملك باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شىء في يديه (٢)

ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح، وقاضيه ابن السليم:


(١) البيان المغرب ج ٢ ص ٢٩٥ و٢٩٦ و٢٩٧ و٢٩٨، وابن خلدون ج ٤ ص ١٤٨ والحلة السيراء ص ١٤٩، ونفح الطيب ج ١ ص ٢٧٢.
(٢) هذان البيتان ينسبان أيضاً إلى المقتدر العباسي.

<<  <  ج: ص:  >  >>