للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الباسل، فحشى جلده بالقطن، وصلب على باب القصر بقرطبة، وصلب رأسه على باب الزاهرة، ولبث كذلك دهراً، حتى أدركه الفيلسوف ابن حزم نفسه، وهو فتى، وذلك عند إنزاله يوم هدم الزاهرة في سنة ٣٩٩ هـ (١٠٠٨ م) (١).

* * *

وهنا تبدأ سلسلة هذه الغزوات الشهيرة العديدة، التي شهرها ابن أبي عامر على الممالك الإسبانية النصرانية، واستمر يضطلع بها باستمرار ودون هوادة، والتي خرج منها جميعاً متوجاً بغار الظفر، ولم يهزم في أية واحدة منها.

وتتحدث معظم الروايات الإسلامية عن حروب ابن أبي عامر وغزواته بإفاضة، وتعددها بأكثر من خمسين غزوة. ولكنها لا تقدم إلينا عنها تفاصيل واضحة، ولاسيما عن الزمان والمكان (٢)، ويجمل ابن خلدون ذكرها في قوله: " وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش، ولا أصيب له بعث ولا هلكت سرية " (٣).

وتجمل الرواية الإسلامية بواعث هذه الغزوات المستمرة في نزعة الجهاد.

ولكن الحقيقة هي أن ابن أبي عامر، كان باضطلاعه بتلك الغزوات المتعاقبة يرمي إلى غاية سياسية بعيدة المدى، لم يفكر فيها أحد قبله من أمراء الأندلس، أو لم يجد لديه وسيلة أو مقدرة لتنفيذها. ذلك أنه فكر في أن يسحق الممالك الإسبانية النصرانية سحقاً تاماً، وأن يقضي على استقلالها القومي، وأن يخضعها جميعاً إلى سلطة الخلافة. وقد خالف ابن أبي عامر في غزواته، سنن أسلافه من الأمراء والقادة، فقد كان هؤلاء يحاربون في معظم الأحيان للدفاع ورد غارات النصارى، ولكن ابن أبي عامر كان هو البادئ بالحرب دائماً، ولم يقبل من أعدائه قط صلحاً أو مهادنة، ولم يقنع إلا بالنصر الكامل.


(١) راجع رواية ابن حزم في رسالة " نقط العروس " (المنشورة في مجلة كلية الآداب بالقاهرة في عدد ديسمبر سنة ١٩٥١) ص ٨١ و٨٢.
(٢) ذكر ابن الأبار في الحلة السيراء أن المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان قد استوعب هذه الغزوات وفصلها في كتابه الكبير الذي ألفه في أخبار الدولة العامرية. ولكن هذا المؤلف لم يصل بعد إلينا (ص ١٤٩).
(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٤٨. وكذلك ابن الأثير ج ٨ ص ٢٢٤ وج ٩ ص ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>