للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المتوالية. وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل.

بدأ المنصور حياته في حلبة العلم والدرس، ولكن سرعان ما تفتحت مواهبه الإدارية والسياسية، فجاز مراتب المناصب السلطانية بسرعة، وظهر في كل منها بفائق كفايته وحزمه. وما كاد يختفي الحكم المستنصر من الميدان ويقوم ولده الطفل هشام في الخلافة، حتى تبلورت مطامع المنصور، واتجهت تواً إلى غايتها البعيدة، فكان الصراع مع الفتيان الصقالبة، ثم مع الحاجب جعفر، ولم يتح بعد ذلك لأية قوة معارضة أن تقف في سبيله. ولما اجتمعت سائر السلطات في يده، اتشح بثوب الحاكم المطلق، الذي لا يطيق أية مشاركة في سلطانه أو أي اعتراض لرأيه، ولم يدخر وسعاً في أن يخمد أية نزعة للخروج أو الثورة على حكمه.

وهنا تبرز النواحي القاتمة في عبقرية المنصور، فنراه يلجأ في تدعيم سلطانه وحمايته إلى نفس الوسائل الميكيافيللية التي يلجأ إليها الطغاة دائماً في كل قطر، وفي كل عصر: إلى القتل، والغيلة، والخديعة، وكل ضروب العنف المثير، ونراه يسير إلى تحقيق الغاية بأي الوسائل، ولا يعف في ذلك السبيل عن ظلم يقع، أو دم يسفك، حتى ولو كان دم ولده بالذات.

على أن هذه الوسائل المثيرة التي كانت سياجاً لسلطان المنصور، ودعامة لدولته، والتي هي دائماً من لوازم الحكم المطلق، يجب ألا تحول أنظارنا عن حقيقة ناصعة أخرى، وهي أن المنصور لم يستخدم هذا السلطان إلا لخير دينه، وخير الأمة التي نصب نفسه حاكماً عليها، ومشرفاً على مصايرها؛ ولعل الإسلام في شبه الجزيرة الإسبانية، لم يظفر قط بمجاهد في بطولة المنصور، وتفانيه في الذود عن دينه، وإعلاء كلمته، ولعل الأندلس لم تر قط مثل المنصور، زعيماً أخلص في خدمتها، وكرس جهوده ومواهبه في بناء قوتها وعظمتها، وسحق عدوها، وتحقيق أمنها ورخائها.

وقد أدرك المنصور منذ البداية، أنه يجب لتحقيق سلام الأندلس وأمنها، وردع الممالك النصرانية عن عدوانها المستمر، أن يكون للأندلس قوة عسكرية عظيمة، تكفي لإرهاب عدوها، وإعزاز دينها، ومن ثم فقد بذل جهده لإصلاح الجيش الأندلسي، وتقويته، وتزويده بأفضل العناصر المحاربة. وقد رأى

<<  <  ج: ص:  >  >>