وفي وصية المنصور لولده وغلمانه، يرتسم برنامج سياسته كلها، وتبدو يالأخص نواحي توجسه وتخوفه، فهو لم يكن يأمن جانب بني أمية قط، وقد لبث يتوقع الشر منهم حتى وفاته. ثم توفي وهو يتوقع الشر منهم لبنيه ودولته. وقد كان المنصور في ذلك صائب التقدير، بعيد النظر.
* * *
هذا وأما علائق المنصور الدبلوماسية فإنه لم يتح له عقد الكثير منها، ولم تفد إليه سفارات من ملوك النصارى على نحو ما حدث أيام الناصر والحكم المستنصر. ذلك لأن عهد المنصور كان كله عهد حروب مستمرة، بين الأندلس وبين اسبانيا النصرانية، ولم يقع بين الفريقين تهادن أو سلم طويل الأمد.
وكل ما نستطيع أن نسجله من ذلك حادثان متشابهان، أولهما قدوم برمودو الثاني ملك ليون إلى قرطبة في سنة ٩٨٥ م، مستجيراً بالمنصور ليعاونه على مقاومة الأشراف الخارجين عليه وتوطيد عرشه. وقد أجابه المنصور إلى طلبه وبادر بمعونته. ومما هو جدير بالذكر أن برمودو قدم ابنته تريسا Teresa، بعد ذلك إلى المنصور عروساً له، فقبلها المنصور وتزوجها أو اتخذها سرية له (١).
والثاني، وهو من أشهر الحوادث الشائقة التي وقعت أيام المنصور، هو مقدم سانشو غرسية ملك نافار على المنصور، معتذراً إليه، لائذاً بعفوه ومهادنته, والوجه الشائق في ذلك هو أن سانشو غرسية هذا كان صهراً للمنصور، وكان تقرباً من المنصور، واكتساباً لمودته قد قدم ابنته عروساً إليه (٩٨١ م) فتزوجها المنصور، واعتنقت الإسلام، وسميت باسم "عبدة"، وكانت من أحظى نسائه لديه، ورزق منها بولده عبد الرحمن الذي سمي أيضاً " شنجول " أو " سانشول " أى شانجُه (سانشو) الصغير نسبة لجده ملك نافار. ثم ساءت العلائق بين المنصور وصهره، وتابع المنصور غزو نافار مرة بعد مرة، حتى اضطر سانشو إلى طلب الصلح، وسار إلى قرطبة مستصرخاً المنصور ولائذاً بعفوه. ووصل سانشو إلى قرطبة في الثالث من رجب سنة ٣٨٢ هـ (٤ سبتمبر سنة ٩٩٢ م) فسر المنصور بمقدمه سروراً عظيماً، وبعث القواد والكبراء وطوائف الجند في موكب فخم، وعلى رأسهم ولده عبد الرحمن وهو طفل في مهده، لاستقباله ومرافقته
(١) R. M. Pidal: La Espana del Cid (Madrid ١٩٤٧) p. ٧١.