للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبعدوا إلى العدوة، واستتب الأمر لعبد الملك، دونما جهد أو اضطراب، واستقبل الناس حكمه بالاستبشار والرضى.

وكان عبد الملك، حينما خلف أباه المنصور في الحكم، في الثامنة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بقرطبة في سنة ٣٦٤ هـ، ويكنى أبا مروان ويلقب بسيف الدولة وبالمظفر بالله، وأمه حرة تدعى الذلفاء؛ وقد رأينا كيف تمرس عبد الملك في شئون الحكم أيام أبيه، وكيف تولى القيادة، واشترك معه في كثير من غزواته، ومن ثم فقد قبض عبد الملك على زمام الأمور بحزم وكفاية، واعتزم أن يسير على خطى أبيه، سواء في تدبير الشئون الداخلية، أو الاستمرار في غزو الممالك النصرانية.

وتشيد الرواية الإسلامية بعهد عبد الملك على قصره، وما بلغته الأندلس فيه من الرخاء والنعماء، وتقدمه إلينا في صور طيبة لامعة. فيقول لنا ابن حيان في قوة وحماسة: " انصب منه الإقبال والتأييد على دولته انصباباً، ما عهد مثله في دولة. وسكن الناس منه إلى عفاف، ونزاهة، ونقي سريرة، ووثوق في بعد همته، اطمأنوا بها إلى جنبه، في السرِّ والعلانية، فباحوا بالنعم، واستثاروا الكنوز، وتناهوا في الأحوال، وتناغوا في المكاسب، وتحاسدوا في اقتناء الأصول، وابتناء القصور، وغالوا في الفرش والأمتعة، واستفرهوا المراكب والغلمان، وغالوا في الجواري والقيان، فسمت أثمان ذلك في تلك المدة، وبلغت الأندلس فيها الحد الذي فاق الكمال؛ فمهد تلك الدولة في احتشاد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها ... في كنف ملك مقتبل السعد، ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مسرور بما تتنافس فيه رعيته من زخرف دنياها. فاجتمع الناس على حبه. ولم يدهنوا في طاعته، ورضى بالعافية منهم، وآتوه إياها فصفى عيشه، وانشرح قلبه، وخلصه الله من الفتنة ".

ويشيد ابن حيان بعد ذلك، بعفة عبد الملك، وورعه وتواضعه وشجاعته وحيائه، وتورعه عما يشين الملك من المجون والاستهتار، وبره بوالديه، وثباته على عهد أبيه. كل ذلك في عبارات تنم عن عميق تأثره وإعجابه (١).

بيد أن هذه الصور المشرقة التي تقدم إلينا عن خلال عبد الملك، تغشاها


(١) نقله أعمال الأعلام ص ٨٤ و٨٥، والبيان المغرب ج ٣ ص ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>