للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمضحكين، مجاهراً بالفتك، وشرب الخمر " (١).

وجرى عبد الرحمن على سنة أبيه وأخيه، في الحجر على الخليفة هشام وحجبه، وفي الاستبداد بالرأي والحكم (٢)، ولكنه نهج في معاملة الخليفة نهجاً جديداً، فأكثر من الإتصال به، والتقرب إليه، وبالغ في إرضائه وإرضاء حاشيته، وتحقيق رغباتهم؛ هذا في حين أن المنصور كان يقتصر في الاتصال بالخليفة على المواقف الضرورية، ويقتصد في رؤيته، ويؤثر التظاهر بتوقيره مع البعد عنه، ويحرص على عدم تدليله، وكبح جماح حاشيته؛ وجرى ولده المظفر على هذه السياسة. ولكن عبد الرحمن بالغ في التودد لهشام ومخالطته؛ ومن ذلك أنه استأذنه في أن يقوم بالتنزه مع أهله في قصور الملك بقرطبة، ويكون الخليفة هنالك مع خاصته وجواريه. فأذن هشام بذلك، وخرج مع الحاجب في موكبه مستخفياً، وقد ارتدى برنساً كالذي ترتديه الجواري، حتى لا يعرفه أحد، واخترق الموكب شوارع قرطبة المقفرة ومن حوله الجند، ونزل بقصر ناصح. وهنالك عرض عليه الحاجب شئون المملكة، والتمس إليه أن يأذن له في التلقب بالمأمون، وأن يضاف إلى اسمه ناصر الدولة، فخرجت رقعة الخليفة بذلك إلى الوزير الكاتب جَهْور بن محمد، وتسمية عنوانها " الحاجب المأمون ناصر الدولة أبو المطرِّف حفظه الله " وأبلغت بعد ذلك إلى الجهات والكافة. وكان ذلك لعشرة أيام فقط من ولاية عبد الرحمن. فعجب الناس لهذه الجرأة، وأنكر الناس على الحاجب هذا التسمي بألقاب الملك والخلافة، واعتبروها افتئاتاً وغروراً، ممن لا تؤهله خلاله لمثل هذا التكريم. ولكن سوف نرى أنها لم تكن سوى مقدمة لما هو أخطر وأبعد أثراً (٣).

ذلك أنه لم تمض على هذا الإجراء فترة يسيرة، حتى غادر الخليفة هشام قصر ناصح بقرطبة، إلى القصر الخليفي بمدينة الزهراء مستخفياً كعادته، يتقدم موكبه الحاجب عبد الرحمن، ونزل عبد الرحمن بمدينة الزاهرة. وأقام الخليفة بالزهراء يومين. وفي اليوم الثالث الموافق ١٤ ربيع الأول سنة ٣٩٩ هـ، غادر القصر الخليفي في أهله، إلى منية جعفر المجاورة، ومعه الحاجب. وكان عبد الرحمن


(١) البيان المغرب ج ٣ ص ٣٩.
(٢) ابن خلدون ج ٦ ص ١٤٨.
(٣) البيان المغرب ج ٣ ص ٤٠ - ٤٢؛ وأعمال الأعلام ص ٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>