للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى الأوضاع الطبيعية المألوفة. وكانت شخصية المنصور العظيمة، وعزمه الصارم،

وهمته البعيدة، وخلاله الرفيعة، وتفانيه في الجهاد، والعمل على إعزاز الأندلس

وإسعادها: كانت تفرض نفسها على الناس، وتخفف نوعاً من وطاة النظام وحدته،

وتبث في نفوس الشعب نوعاً من الإعجاب المقرون بالإغضاء والتسامح. فلما

توفي المنصور، ونهض ولده عبد الملك بأعباء الحكم، بدأ ينقشع هذا الشعور

الملطف، وبدت مثالب الحكم المطلق على أشدها، وزاد إحساس الشعب بما يعانيه

من ضروب الإرهاق والضغط، وظهرت شخصية عبد الملك ضئيلة باهتة بالنسبة

لشخصية أبيه العظيم، وبدت بالرغم مما اضطلع به من الغزوات، وما تمتعت به

البلاد في ظله من السلام والرخاء، لا تحمل سوى الأوزار الظاهرة، من عكوف

على الشراب، وانهماك في الملاذ، والمضي في اغتصاب السلطة الشرعية، وتمكين لنير الصقالبة والبربر، والتطلع إلى ألقاب الملك، بصورة تكشف عما وراءها من الأطماع الخطرة.

وجاء عبد الرحمن ابن المنصور إثر أخيه عبد الملك، وقد كان أضعف منه شخصية، وأسوأ خلالا، ليتابع حكم الإرهاب والطغيان، وجلس غداة وفاة أخيه بقصر الزاهرة، كما يجلس خليفة العرش مكان سلفه، في السابع عشر من صفر سنة ٣٩٩ هـ (٢٢ أكتوبر سنة ١٠٠٨ م). ومثل في نفس اليوم لدى الخليفة هشام، فخلع عليه الخلع السلطانية، وقلده الحجابة، ثم أقبل إليه الأكابر والأعيان بقصر الزاهرة، مهنئين مبايعين.

وكان عبد الرحمن وكنيته أبو المطرِّف، حينما تولى الحكم، فتى في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يلقب منذ حداثته " بشنجول " (سانشول) أو شانجُه الصغير، وذلك لأنه حسبما تقدم كان حفيداً لسانشو غرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية، حينما تزوجت المنصور، قد اعتنقت الإسلام، وتسمت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن " أشبه الناس بجده ". وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، إنحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجراً كثير الإستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو " يخرج من منية إلى منية، ومن متنزه إلى متنزه، مع الخياليين والمغنين

<<  <  ج: ص:  >  >>