وفي صباح اليوم التالي، وهو اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة ٣٩٩ هـ (نوفمبر ١٠٠٨ م)، أحيط قصر الخليفة بصفوف كثيفة من الجند، وأخرج عبد الرحمن هشاماً، وأجلسه في الساحة الكبرى، وجلس من حوله الوزراء والقضاة والقادة وأكابر رجال الدولة، فكان يوماً مشهوداً، وصدر مرسوم ولاية العهد وهو من إنشاء كاتب الرسائل أبى حفص أحمد بن برد، وذيل بشهادة قاضي الجماعة أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وشهادة الوزراء وهم تسعة وعشرون وزيراً، ويليهم شهادة مائة وثمانين رجلا، من أكابر أهل الدولة والحكام، والفقهاء، وغيرهم. وإليك نص هذا المرسوم الشهير:
" هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - أطال الله بقاءه - إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى عليه صفقة يمينه ببيعة تامة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعله الله إليه من إمامة المسلمين، وخصه به من إمرة المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء، بما لا يصرف، وخشى أن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدور ذلك به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوى إليه، ولم يوردها ملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى الله مفرطاً فيها، ساهياً عن أداء الحق إليها. ونفض عند ذلك طبقات الرجال من أحياء قريش وغيرهم، ممن يستحق أن يسند الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وورعه، يعد اطراح الهوادة، والتبرىء من الهوى، والتحري للحق، والزلفى إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، عالماً بأن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقناً أن لا وسيلة إليه أرضى من الدين الخالص، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه النظر في أمر الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف همته، وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، النازح عن كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله، إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، وارثاً للمكرمات، يجذب بضبيعة إلى أرفع منازل الطاعة، وينمو بعينيه إلى أعلا درج النصيحة،