بالمساواة والاعتدال والعدل، بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم. وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق اتباع قوانينهم وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم وقضاتهم، واختاروا في معظم الأحوال لهم حكاما من أبناء جنسهم، يعهد إليهم بسن الضرائب المطلوبة، والإشراف على النظام والسكينة. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر، فقد كانت السياسة الإسلامية مثلا أعلى للتسامح. فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين أو الاعتقاد، وكان أداء الجزية هو كل ما يفرض على الذميين من النصارى أو اليهود، لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية عقائدهم وشعائرهم, ومن دخل الإسلام منهم سقطت عنه الجزية، وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. ونرى في هذا الموطن أن نقدم طائفة من الأقوال والآراء التي يعلق بها المؤرخون والنقدة الغربيون، على سياسة الفتح الإسلامي وآثاره في اسبانيا. يقول العلامة المستشرق رينهارت دوزي:
" لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى كثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتحلون بكثير من التسامح. فلم يرهقوا أحداً في شئون الدين. ولم تكن الحكومة - إذا لم تكن مغرقة في الدين - لتشجع إسلام النصارى، إذ كانت خزانة الدولة تخسر بإسلامهم كثيرا. ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم، وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرنج وانقضى القرن الثامن كله في سكينة، وقلما نشبت فيه ثورة. كذلك لم يبد رجال الدين في العصور الأولى كثيراً من التذمر، وإن كانت لديهم أكثر البواعث لذلك. وهذا ما تؤيده روح الرواية اللاتينية التي كتبت سنة ٧٥٤ في قرطبة، والتي تنسب لإيزيدور الباجي، فإن كاتبها رغم كونه من رجال الدين، يبدي نحو المسلمين من العطف، ما لم يبده أى كاتب إسباني آخر قبل القرن الرابع عشر ". ويقول دوزي عن آثار الفتح الإجتماعية: " كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لإسبانيا. فقد أحدث فيها ثورة إجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون .. وحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزعت الأراضي توزيعاً كبيرا، فكان ذلك حسنة سابغة، وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم العربي. ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة،