عليه مذ ولى الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام، لم تشهد مثلها من قبل: شهدت قيام الحاجب المنصور ودولته العامرية، واختفاء سلطة الخلافة، في ظل نظام الطغيان المرهق الذي فرضه بنو عامر، ثم شهدت الثورة الغامرة التي أطاحت بالدولة العامرية وعود الخلافة الأموية في ثوبها الباهت المهلهل، على يد مغامرين مثل محمد بن هشام المهدي، وسليمان المستعين، وشهدت وفاة هشام المزعومة، ثم بعثه، وعوده إلى تولي الخلافة، شبحاً من أشباح الماضي، وألعوبة في يد واضح وزملائه الفتيان العامريين، أصحاب الحول والسلطان، بعد ابتعاد البربر ومصرع المهدي.
وتولى واضح بالطبع منصب الحجابة للخليفة الذي اصطنعه، وسكنت الفتنة، وهدأت الخواطر نوعاً، وبعث الخليفة برأس المهدي إلى سليمان المستعين وحلفائه البربر، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته، وأخذ يظهر في شوارع قرطبة خلافاً لما كان عليه فيما مضى، إظهاراً لهيبة الخلافة وسلطانها. ولكن البربر لم يقبلوا دعوته، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان، وكان البربر في الواقع يضطرمون حقداً على أهل قرطبة لما أصابهم منهم من أنواع النكال، ويزمعون الانتقام منهم بكل وسيلة. وحاول سليمان والبربر أن يحصلوا مرة أخرى على معاونة سانشو غرسية أمير قشتالة، وعرضوا أن يسلموه سائر الحصون الأمامية التي افتتحها الحكم والمنصور، إذا ارتضى محالفتهم ومعاونتهم على استعادة قرطبة، وخلع المؤيد، ولكن سانشو لم يصغ إليهم في تلك المرة، معتزماً أن يوجه مطالبه إلى الخليفة القائم. وعندئذ عول البربر على السير إلى قرطبة، فسارت جموعهم حتى وصلت إلى الزهراء غربي قرطبة، فهاجموها وقتلوا معظم الجند الذين بها، واحتلوها وذلك في شهر ربيع الأول سنة ٤٠١هـ (نوفمبر سنة ١٠١٠ م)، واستمروا بها بضعة أشهر حتى أواخر شعبان من تلك السنة، ثم زحفت جموعهم على أرباض قرطبة، يعيثون فيها تخريباً ونهباً وقتلا، ويجتنبون الاشتباك مع جند واضح، وضج أهل قرطبة لهذا الاعتداء، وزادت نفوسهم حقداً على البربر، وتحرقاً للانتقام منهم، وانتشرت جموع البربر في نفس الوقت جنوباً، حتى وصلت إلى أحواز غرناطة ومالقة وهي تنشر الخراب والدمار أينما حلت.