للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي تلك الأثناء وصل سفراء سانشو غرسية أمير قشتالة إلى قرطبة، يطالبون بالحصون الواقعة على الحدود، والتي افتتحها المسلمون منذ أيام الحكم حتى نهاية عهد بني عامر. ولم ير هشام وواضح بداً من إجابة سانشو إلى طلبه، اتقاء لعدوانه من جهة، واتقاء لتحالفه مع البربر من جهة أخرى. وعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وكتب محضر رسمي بتسليم عدد كبير من الحصون إلى النصارى، يقال إنها أربت على المائتين (١)، ومنها معاقل هامة، كانت قواعد أمامية للمسلمين، مثل شنت إشتيبن، وقلونية، وأوسمة، وغرماج وغيرها، وخسرت الأندلس بذلك خط دفاعها الأول، وتركت حدودها الأمامية مفتوحة لغزوات النصارى.

واستمر البربر على حصارهم لقرطبة، وعيثهم في أرباضها الخارجية، وكانت الحالة تسوء من يوم إلى يوم، وكان الناس في قرطبة، جيشاً وشعباً، يزمعون مقارعة البربر، والقضاء عليهم بكل ما وسعوا، ويرفضون كل رأي أو مسعى يتجه إلى مسالمتهم أو التفاهم معهم، ولم يجد المؤيد وواضح بداً من الانسياق مع التيار العام، واتخاذ كل وسيلة ممكنة للدفاع عن المدينة، ولكن الموارد كانت تقل يوماً عن يوم، حتى اضطر المؤيد إلى إخراج سائر نفائس القصر وتحفه ورياشه، ليقتني بثمنها الخيل والسلاح، وفضلا عن ذلك فقد أرهق القرطبيون بالمطالب والمغارم حتى ضاقوا ذرعاً؛ وأخيراً شعر واضح بأنه يواجه حالة مستحيلة، واعتزم أن يغادر قرطبة سراً، إلى بعض نواحي الثغر، ولكن بعض أكابر الجند وقفوا على مشروعه، فنهض أحدهم، وهو على بن وداعة مع نفر من زملائه، فعاتبوه على ما بدد من الأموال، وما أساء من تصرف، ثم قتلوه واحتزوا رأسه، وطيف بها في الشوارع، ونهبت دوره ودور أصحابه، فوجد بها مال كثير معبأ كان يعتزم الفرار به. وهكذا كفر واضح بدمه عن جريمته في اغتيال المهدي، وهكذا أضحت الجريمة وسيلة ذائعة في بلاط قرطبة، لاقتناص السلطان أو التخلص من صاحبه (٢).

وعلى أثر ذلك ولى المؤيد ابن وداعة شرطة المدينة، فاستعمل الحزم والشدة، في قمع الشغب وصون النظام والأمن، فهابته العامة، وقلت حوادث الشغب، وتولى تدبير الأمور للمؤيد رجل من موالي العامريين يسمى ابن مناو؛ ثم جاءت


(١) أعمال الأعلام ص ١١٧.
(٢) البيان المغرب ج ٣ ص ١٠٣ و١٠٤؛ وأعمال الأعلام ص ١١٧ و١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>