واستمرت المعارك من ذلك الحين بين الفريقين سجالا، وأهل قرطبة يخرجون من المدينة مرة بعد أخرى، ويقاتلون البربر محاولين تحطيم الحصار المرهق، والبربر من جانبهم ينزلون بهم أشد الضربات، وفي ٢٦ شوال سنة ٤٠٣ هـ (مايو سنة ١٠١٣ م) نشبت بين الفريقين معركة عامة، وقاتل أهل قرطبة قتالا شديداً، ولكنهم هزموا بعد معارك طاحنة، وقتل منهم عدد جم، وساد الاضطراب أرجاء المدينة، وفتحت أبوابها؛ وخرج القاضي ابن ذكوان مع جماعة من الفقهاء وساروا إلى معسكر البربر، وطلبوا الأمان من سليمان وزعماء القبائل البربرية، فمنح الأمان لقاء مبالغ عظيمة فرضت على المدينة، ودخل البربر المدينة دخول الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، ولم يفروا الأطفال والشيوخ، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة.
وفي اليوم التالي دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنفه على موقفه، فاعتذر بأنه مغلوب على أمره. وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر بأنه فر من محبسه، وقصد إلى ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى توفي. بيد أننا نرجح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث. (١)
ولما استتب الأمر لسليمان، وهدأت الخواطر نوعاً، تلقب بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، وانتقل إلى مدينة الزهراء بحاشيته وقواد البربر وجندهم، فاحتلوها وما حولها، ونزل علي والقاسم ابنا حمود قائدا فرقة العلوية بشقندة ضاحية قرطبة، وأخذ سليمان ينظم شئون الحكومة المضطربة. وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى العرش، على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب الهامة؛ ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً عن قرطبة من جهة أخرى،
(١) راجع في سقوط قرطبة ومصير هشام، ابن خلدون ج ٤ ص ١٥١؛ وابن الأثير، ج ٩ ص ٧٥ والمراكشي ص ٢٢ - ٢٥؛ وأبو الفدا ج ٢ ص ١٣٩؛ والبيان المغرب ج ٣ ص ١١٢ و١١٣؛ وأعمال الأعلام ص ١١٨ - ١٢٠.